من الأمور المهمة في حياة الإنسان التواصل مع الناس، والتفاعل الإيجابي معهم، وحضور مناسباتهم الاجتماعية العامة في الأفراح والأتراح، ومشاركتهم في السراء والضراء؛ فهذا التواصل الاجتماعي مع الآخرين مصدر من مصادر السعادة والسرور والبهجة والارتياح.
ولأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه؛ فلا يمكنه الاستغناء عن التواصل مع بني جنسه، فهو يأنس بهم، ويأنسون به، ولذا لا يمكن أن يشعر أي إنسان بالراحة والسعادة لو تُرك يعيش لوحده حتى لو وُفرت كل المستلزمات الحياتية ووسائل الترفيه والراحة له، ولكنه حُرم من رؤية الآخرين والتواصل معهم.
وكلمة الإنسان مشتقَّة من مادَّة «أُنس» كما يقول اللغويون، فهو يأنس بمثله، ويشعر بالسعادة عندما يخالطهم ويجالسهم، والحاجة إلى الأُنس بالآخرين أمر بدهي وفطري، ولا يتحقق ذلك إلا عبر التواصل معهم والتآلف مع من يختلط بهم.
وسيرة أئمة أهل البيت
تؤكِّد ذلك، فعن ياسر الخادم قال: «كانَ الرِّضا
إذا كانَ خَلا جَمَعَ حَشَمَهُ[1] كُلَّهُم عِندَهُ، الصَّغيرَ وَالكَبيرَ، فَيُحَدِّثُهُم ويَأنَسُ بِهِم ويُؤنِسُهُم»[2] فالأُنس بالآخرين حاجة فطرية لا غنى عنها لأي شخصية سويّة وإن كان من علية القوم.
وأما الإنسان المنعزل عن الناس، والمنطوي على ذاته فيعاني -غالبًا- من اعتلالات نفسية واضطرابات باطنية وأمراض أخلاقية ومشاكل اجتماعية نتيجة انعزاله عن الآخرين، ويتحول بمرور الزمن إلى إنسان مستوحش ومتوحش؛ ما ينعكس سلبًا على تصرفاته وسلوكياته وأخلاقياته.
إن تحلي المرء بالدافعية الاجتماعية يحفز في شخصيته الاندفاع الإيجابي للتواصل مع الناس، والتشارك معهم في القضايا الاجتماعية، والتعاون مع الآخرين في تحقيق الأهداف الاجتماعية العامة التي تخدم المجتمع.
وفي الماضي كانت الناس أكثر تواصلًا مع بعضهم بعضًا، ومع بساطة الحياة، وشظف العيش، فإنهم كانوا أشد تقاربًا، وأكثر انسجامًا. أما اليوم فقد ساهمت بعض التحولات الحديثة في مجتمعنا على انخفاض روح التواصل الاجتماعي لصالح الاهتمامات الفردية الخاصة، وأمسى كل واحد منا مشغولًا بحاله وعائلته، ودائمًا ما نسمع كلمة "أنا مشغول"، للتبرير عن غيابه الاجتماعي أو عدم رغبته بالقيام بأي دور أو مسؤولية اجتماعية عامة.
ومن تلك التحولات التي فرضتها طبيعة الحياة المعاصرة: كثرة الأعمال والأشغال إما واقعًا أو تصورًا، والسكن في مناطق جديدة ومتباعدة عن سكنه الأصلي، والشعور بعدم الحاجة إلى الآخرين، والإدمان على وسائل التواصل الإلكتروني وغيرها من الأسباب التي أدت إلى انخفاض التواصل الاجتماعي بين الناس.
لكن كثرة الأعمال، أو زحمة الأولويات يجب ألا تحول بيننا وبين التواصل الاجتماعي مع الناس، كما أن السكن في مناطق جديدة يجب أن تدفع المرء للتعارف مع جيرانه الجدد، ويمكن معالجة الإدمان على وسائل التواصل الإلكتروني بتحديد وقت معين لها، والتواصل المباشر مع الناس في مختلف المناسبات.
وأما الشعور بعدم الحاجة إلى الناس فهو شعور خادع؛ فلا يمكن لأي أحد الاستغناء الكامل عن الآخرين، فهو يحتاج إليهم في حاجات مادية وحاجات معنوية متجددة؛ ولذا لما قالَ رجل بحَضْرَة الإمام زين العابدين
: اللَّهُمَّ أغْنِني عَن خَلْقِكَ!
قال
: «لَيس هكذا، إنَّما النّاسُ بالنّاسِ، ولكِنْ قُل: اللَّهُمَّ أغْنِني عن شِرارِ خَلْقِكَ»[3] .
فطبيعة الحياة تفرض على الإنسان اللجوء إلى الآخرين في جوانب مختلفة من حياته، فهو يحتاج الطبيب عندما يمرض، ويحتاج العالم في بيان الأحكام الشرعية، ويحتاج المهندس لتصميم خريطة لبناء منزله، ويحتاج العامل للقيام ببعض المهام الخدمية ...، وهكذا دواليك.
وفي الحاجات المعنوية والنفسية يحتاج إلى احترام الآخرين له، وأن يواسيه الناس في أتراحه ويهنؤونه في أفراحه ...، وعلى ذلك قس بقية الأمثلة.
وأما الشخص المصاب بالانعزال والانكفاء على نفسه فهو يعاني من الإصابة بمرض القطيعة والعزلة عن الناس، وهو من الأمراض الاجتماعية الآخذة بالانتشار عند قسم من أبناء المجتمع، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه، فهذا المرض إن استفحل سيؤدي إلى أضرار كبيرة في بنية المجتمع وتماسكه.
وفي تعاليم الإسلام وتوصياته التأكيد المستمر على التواصل والتزاور والتعارف بين الناس، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [4] والتعارف لا يتم إلا عبر التواصل والتداخل مع الناس، ولذا قال الإمام علي
- وهو على فراش الموت موصيًا ولديه الحسن والحسين
-: «عَلَيكُم يا بَنِيَّ بِالتَّواصُلِ وَالتَّباذُلِ[5] وَالتَّبارِّ، وإيّاكُم وَالتَّقاطُعَ وَالتَّدابُرَ وَالتَّفَرُّقَ»[6] ، وعنه
: «علَيكُم بالتَّواصُلِ والمُوافَقَةِ، وإيّاكُم والمُقاطَعَةَ والمُهاجَرَةَ»[7] .
ووصية الإمام لأولاده وهو على فراش الموت بهذه الوصية الاجتماعية يؤكد أشد التأكيد على أهمية التواصل مع الآخرين في حياة الإنسان، وينهى أشد النهي عن التقاطع والتنافر والانعزال.
للتواصل الاجتماعي مع الناس مصاديق وعلامات، ومنها: صلة الأرحام والأقارب؛ فهو مصداق بارز من مصاديق التواصل الاجتماعي، فالإنسان دائم التواصل والتزاور مع أرحامه هو إنساني اجتماعي، وأما قاطع الرحم فغالبًا ما يكون منخفض الروح الاجتماعية، ويميل إلى الانعزال والانكفاء على الذات.
ولصلة الأرحام فوائد عديدة، ومنها: تنمية التواصل بين أفراد الأسرة، وتثبيت التآلف بين الأرحام والأقارب، وتقوية العلاقة بالأهل والعائلة، وزيادة المحبة والمودة، واجتماع الشمل، وأداء الحقوق، وقد روي عن رسول الله
: «صِلَةُ القَرابَةِ مَثراةٌ فِي المالِ، مَحَبَّةٌ فِي الأَهلِ، مَنسَأَةٌ فِي الأَجَلِ»[8] ، وعن الإمام علي
: «صِلَةُ الرَّحِمِ توجِبُ المَحَبَّةَ»[9] .
ومن مصاديق وعلامات التواصل الاجتماعي أيضًا: هو التزاور بين الناس، وزيارة الآخرين بين الفينة والأخرى في مجالسهم وديوانياتهم، خصوصًا في المناسبات الدينية كالأعياد والمناسبات الاجتماعية العامة كالزواج.
وللزيارة فوائد كثيرة؛ فهي توجب المودة والمحبة، وتقوي العلاقات الاجتماعية، وتنمي أواصر الأخوة والصداقة. روي عن رسول اللَّه
: «الزِّيارَةُ تُنبِتُ المَوَدَّةَ»[10] .
ومن الأمور المهمة زيارة كبار السن، فهم يأنسون بزيارة أولادهم وأحفادهم وأرحامهم إليهم، وأما تركهم لوحدهم وعدم تفقد أحوالهم فيوحشهم، ويترك جروحًا غائرة لا تندمل في قلوبهم بسهولة.
ومن المحزن حقًّا ما نسمعه من تصرفات غير لائقة من قبل البعض، حيث يذهبون بكبير السن إلى دار العجزة ويضعونه عندهم، ثم يتركون زيارته أو السؤال عنه أو الاهتمام بأحواله؛ ما يسبب له آلامًا نفسية شديدة.
وإذا كانت زيارة الآخرين أمرًا راجحًا في نفسه؛ فمن الأولى زيارة الأرحام والأقارب، وخصوصًا كبار السن منهم.
ومن مصاديق التواصل الاجتماعي أيضًا: المشاركة الحضورية في أفراح الآخرين كالزواج، وفي أتراحهم كموت قريب لهم، أو لا أقل مشاركتهم عبر الوسائل الحديثة كالهاتف النقال، أو تطبيقات التواصل الاجتماعي.
وكذا ينبغي الحضور الاجتماعي في المناسبات العامة كالفعاليات الاجتماعية والعلمية والتطوعية والرياضية وغيرها من المناشط الاجتماعية التي تقام في المجتمع.
وخلاصة الكلام: التواصل مع الآخرين له فوائد جمة، ويفتح للإنسان أبوابًا مقفلة، وينير له آفاقًا واسعة، كما أن الإنسان الاجتماعي يحوز على محبة الناس واحترامهم وتقديرهم، ورد عن الإمام علي
: «خالِطوا النّاسَ مُخالَطَةً إن مِتُّم مَعَها بَكَوا عَلَيكُم، وإن عِشتُم (غِبتُم) حَنُّوا إلَيكُم»[11] .
إن علينا أن نحيي هذه القيمة الدينية والإنسانية بعدما تراجعت عما كانت عليه في الماضي بسبب التحولات المتسارعة في حياتنا المعاصرة، وأن ننمي حالة التواصل والتزاور بين أفراد المجتمع، وأن نخصص وقتًا من برنامجنا اليومي للتواصل الاجتماعي مع الناس.
وعلى المرء اغتنام فرصة التواصل مع الآخرين لتقوية التآلف والانسجام معهم، فمن صفات المؤمن الألفة والتآلف، لما روي عن رسول الله
: «المؤمنُ يألَفُ ويُؤلَفُ، ولا خيرَ فيمَن لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ»[12] .
[1] حَشَمُ الرَّجُلِ: خدَمُه ومن يغضب له (الصحاح: ج 5 ص 1900«حشم»).
[2] عيون أخبار الرِّضا (عليه السلام): ج 2 ص 159 ح 24، بحار الأنوار: ج 49 ص 164 ح 5.
[3] تحف العقول: 278.
[4] سورة الحجرات: 13.
[5] مداولة البذل، أي العطاء.
[6] الكافي: 7/ 52/ 7، تهذيب الأحكام: 9/ 178/ 714، تحف العقول: 199.
[7] غرر الحكم: 6152.
[8] المعجم الأوسط: ج 8 ص 14 ح 7810، كنز العمَّال: ج 3 ص 358 ح 6925؛ قرب الإسناد: ص 355 ح 1272، بحار الأنوار: ج 71 ص 102 ح 58.
[9] غرر الحكم: 5852.
[10] جامع الأحاديث للقمّي: 84، مستدرك الوسائل: 10/ 374/ 12210، بحار الأنوار: 71/ 355/ 36.
[11] نهج البلاغة: الحكمة 10.
[12] كنز العمَّال: 679.





