ضرورات الزواج وأهدافه
الشيخ عبدالله اليوسف - 12 / 11 / 2010م - 7:57 م

نشرت مجلة الواحة- وهي مجلة فصلية تعنى بشؤون التراث والثقافة والأدب في الخليج العربي- في العدد الحادي والثلاثين –السنة التاسعة- الربع الرابع2004م، دراسة لسماحة الشيخ عبدالله أحمد اليوسف بعنوان (ضرورات الزواج وأهدافه)،وإليكم نص مانشر في المجلة:

الزواج والسعادة


من أهم قضايا الشباب والفتيات هو موضوع الزواج؛ وذلك لما يمثله من انعطافة جديدة ومهمة في حياة الإنسان، ولأنه يرتبط بكثير من مسائل الحياة المهمة؛ فالزواج الناجح هو مصدر من مصادر السعادة، والطمأنينة النفسية، وبناء أسرة قوية، وتحقيق الكثير من الأمنيات والأحلام. بينما الزواج الفاشل يؤسس أرضية قوية للشقاء والتعاسة وخيبة الأمل، كما يكون مصدراً لكثير من الآلام والمشاكل النفسية والعقلية والجسدية. ولذلك كله لا يوجد في الحياة شيء يستحق الاهتمام والعناية كأمر الزواج.


ولذلك فليس من المستغرب ملاحظة أن أول ما يفكر فيه الشباب بعد التخرج من الجامعة واستلام الوظيفة وربما قبل ذلك، هو الزواج. والسر في ذلك واضح جداً؛ حيث إن الغريزة الجنسية، تمثل أقوى الغرائز في الإنسان، وقوة هذه الغريزة وضغوطاتها هي التي تدفع بالإنسان نحو الزواج، ولو لم تكن في الإنسان هذه الغريزة القوية لما شعر بالحاجة إلى الجنس الآخر، ومن ثم لانقرض الجنس البشري من قديم الزمان.


ومرحلة الشباب هي فترة هيجان الشهوات، واستيقاظ الغرائز الجنسية، حيث تكون الطاقة الجنسية في أقصى قوتها، ولتصريف هذه الطاقة شرع الإسلام الزواج، وحرم السفاح، فالزواج هو الطريق الفطري والأخلاقي الوحيد لإشباع الغريزة الجنسية، وما عداه فهو مخالف للفطرة، ومخالف للدين، ومخالف للقيم الأخلاقية.


ولذلك كله؛ فقد حَرَّض الإسلام على الزواج، وحثَّ عليه، ورغَّب فيه.. يقول اللَّه تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ( )، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله: (( ما بني في الإسلام بناء أحب إلى اللَّه عزّ وجلّ، وأعز من التزويج )) (2)، وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم ): (( النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني )) (3)، وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (( المتزوج النائم أفضل عند اللَّه من الصائم القائم العزب )) (4)، وقال(صلى الله عليه وآله وسلم ): (( من تزوج فقد أحرز شطر دينه، فليتق اللَّه في الشطر الثاني )) (5)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام ): (( ركعتان يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليهما غير متزوج )) (6)، وفي مقابل ما للزواج من أجر وثواب وفضل عظيم، فقد حذر الإسلام من العزوبة ونهى عنها، فقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله: (( شرار موتاكم العزاب )) (7)، وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم )قال: (( شراركم عزابكم، وأراذل موتاكم عزابكم )) (8)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: (( شراركم عزابكم، ركعتان من متأهل خير من سبعين ركعة من غير متأهل )) (9).


ومن لم يتزوج -لحد الآن- فليبادر إلى الزواج بسرعة، وإن لم يستطع فعليه بالصوم، فهذه هي وصية نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى معشر الشباب، حيث يقول(صلى الله عليه وآله وسلم ): (( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )) (10).


الإسلام والجنس


ينظر الإسلام إلى الطاقة الجنسية في الكائن الإنساني نظرته إلى الطاقات الحيوية الأخرى، حيث لكل طاقة من الطاقات الإنسانية أهداف من خلالها تسير الحياة بصورة منظمة ودقيقة ورائعة، ومن ثم فالطاقة الجنسية ليست سوى جزءاً من التركيبة العامة للإنسان، والتي يجب تصريفها في المسار المحدد لها.


ولما كان الإسلام دين الفطرة فقد شرع الزواج والنكاح كأسلوب إنساني وأخلاقي لتصريف الطاقة الجنسية في مسار الحلال، ومنع من تصريفها في الحرام؛ ولذلك فالإسلام لا يسمح بصرف الطاقة الجنسية من دون ضوابط ومعايير وقيود كما هو حال الماديين الذين أطلقوا العنان للعلاقات الجنسية، ولم يضعوا أية ضوابط شرعية أو أخلاقية، بل شجعوا على الممارسة الجنسية المفتوحة، وسنوا القوانين لحماية مثل تلك العلاقات الفوضوية في المجال الجنسي، بدعوى أنه جزء من الحرية الشخصية!!


وكما لا يقبل الإسلام بالعلاقات الجنسية غير المشروعة، كذلك لا يوافق على كبت الطاقة الجنسية والعزوف عن الزواج كما هو حال رجال الكنيسة وبعض الفلاسفة وغلاة المتصوفة! فالإسلام دين الاعتدال، فهو يدعو إلى تصريف الطاقة الجنسية من خلال الزواج الشرعي، ويحرم العلاقات الجنسية القائمة على الصداقة والتراضي؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفوضى الجنسية، وتحطيم كيان الأسرة، وتدمير القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية، وترويج المجون والإباحية والفساد، كما ينهى الإسلام عن الرهبنة والعزوبة لأن ذلك مخالف للفطرة، ومنطق العقل، وضرورة الجسم، وحاجة النفس.

(( تعتبر الغريزة الجنسية من العوامل المهمة جداً في تحقيق اللذة والسعادة في حياة البشر، هذه الغريزة تثير بجاذبيتها القوية المرأة والرجل، وتلهب فيهما نار الشوق والود، وتدفعهما لوصال أحدهما بالآخر لإرواء هذا الميل الشديد باللذة والسعادة.


ولعل مسألة الزواج وبشكل عام العلاقات الجنسية، استأثرت باهتمام الأوساط الدينية والعلمية في كل الأزمنة والأعصار، وقيلت فيها نظريات إفراطية وتفريطية ومعتدلة.


وقد اعتبر أتباع الكنيسة ومؤيدو بعض المدارس، وكذلك بعض الفلاسفة وعلماء الأخلاق أن العملية الجنسية سلوك حيواني منفور منه وقذر، وقد اختار هذا الصنف طريق التفريط حيال الغرائز وكبتوها بصعوبة بالغة، وحرم الكثير من الشباب المعتقدين بهذه النظرية -إناثاً وذكوراً- على أنفسهم الحياة الطبيعية واللذائذ المشروعة، وراح بعضهم إلى ممارسة رياضات عسيرة، وتحمل ضغوطاً وآلاماً شديدة على أمل نيل الكمال الروحي والسمو المعنوي.

وفي مقابل النظرية التفريطية يوجد أتباع النظرية الإفراطية حيث يعتقدون بإطلاق حرية الغرائز، ويعتبر فرويد وأتباعه من متأخريهم، أخذوا جانب الإفراط والتطرف إزاء الميل الجنسي، ووجهوا انتقادات لاذعة للضوابط القانونية والأخلاقية، فقد بالغ فرويد في إطلاق حرية الغريزة الجنسية.. هذه النظرية الخاطئة التي استندت إلى مبدأ اللذة خلقت مفاسد لا تعد ولا تحصى، وضللت الكثير من شباب الشرق والغرب وساقتهم نحو طريق الفساد والانحراف.


أما الدين الإسلامي فإنه يرفض كلتا النظريتين وينتقدهما، حيث عجز مؤسساهما وأتباعهم عن فهم الحقيقة والنظر إلى الغريزة الجنسية بنظرة واقعية، وتمييز المباح من الممنوع والصالح من الطالح، ولهذا سلكت إحدى المجموعتين سبيل الإفراط والأخرى نهج التفريط، وما من سبب لهذا الإفراط والتفريط إلا الجهل، كما يعبر عن ذلك الإمام علي (عليه السلام ) بقوله: (( لا يُرى الجاهل إلا مُفْرطاً أو مُفَرِّطاً )) .


والاعتدال في استخدام الغريزة الجنسية، أمر يرضى عنه الخالق تبارك وتعالى، ويطابق سنن الخلقة، فهذا الأسلوب لا يطلق العنان للغريزة الجنسية ولا يكبتها ويرفضها كلياً، بل يجري التحكم بهذا الميل الطبيعي بنحو صحيح بمساعدة من القانون والأخلاق، وتوفير متطلبات إشباعها بحدود المصلحة الفردية والاجتماعية.


وقد وضع الإسلام ضوابط معينة وقيوداً محددة لإشباع الغريزة الجنسية على أساس المصلحة المادية والمعنوية وفقاً لنظام الخلقة، وسنَّ مقررات يكتفي بموجبها الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ومنع من انتهاج أساليب منحرفة عن سنة التكوين، ووصف المنحرفين جنسياً بالمعتدين ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(11) )) (2 ).


وقد اهتم الإسلام بالطاقة الجنسية في الإنسان ضمن اهتمامه بالطاقات الحيوية للبشر، ولتعلق الطاقة الجنسية بجسد الإنسان ونفسيته وسلوكه فإن معالجة الأمور الجنسية اتصلت بالإنسان كله: نفسه، وسلوكه، وأخلاقه، وطاقته الجسدية. بالإضافة إلى أن الإسلام عالج مسائل الجنس بصراحة ووضوح في أدب سامٍ رفيعٍ يجعل الجنس نشاطاً إنسانياً سامياً إذا وجّه للحلال، وعملاً حيوانياً ساقطاً إذا وجّه في الحرام؛ ولذلك جعل الإسلام الزواج هو المكان المشروع، والنظام المعروف لتبديد الطاقات الجنسية في الإنسان، والارتفاع بالمجتمع الإنساني بوقايته من الانسياق وراء شهواته بلا وازع، ولا تنظيم، ولا حرمة، ولا قداسة.


إن الإسلام يحرم تلبية الحاجات الفطرية للبشر عن طريق المخالطة الجنسية، والفوضى في العلاقات، والتعدي على الأعراض التي لا تستحل إلا بالنكاح الصحيح.


إن الإسلام يهدف في تربيته الجنسية إلى الارتقاء بالإنسان، والارتفاع به عن مستوى بعض الحيوانات؛ لأن كثيراً من الحيوانات تعيش حياة جنسية منظمة، وتنفر من الفوضى الجنسية، بل ويغار الذكر منها دائماً على الأنثى؛ فإذا كان الجنس مكشوفاً في حياة الأمة، هابطاً عارياً كما في بعض الحيوان، مباحاً مبذولاً بلا رابط ولا قيد كان هادماً للحياة، مدمراً للمجتمع، منافياً للفطرة التي تنفر من الفوضى الجنسية، ولذلك حرم الإسلام الزنى، وشدد عقوبة المقترف له، لما لانتشاره من آثار اجتماعية واقتصادية ونفسية سيئة على المجتمع(3 ).


ونتيجة للإباحية الجنسية في الغرب فقد انتشرت ظاهرة الاغتصاب بصورة مقلقة، بل وخطيرة، كما انتشرت ظاهرة الأولاد غير الشرعيين، وقد أباحوا في بعض البلاد الغربية الإجهاض كحق من حقوق المرأة! ولم يتذكروا حق الجنين في الحياة، وأنه إنسان له كامل الحق في الحياة؛ كما أن كثيراً من النساء في الغرب لا يرغبن في الإنجاب، وتخلى بعض الرجال عن تحمل المسؤولية تجاه الأولاد، وأصبح هَمَّ الكثير من الشباب والفتيات إشباع الغريزة الجنسية بصخب وجنون وإسراف، تحت مسمى الحرية الشخصية، وأصبحت الحرية الجنسية في المفهوم الغربي مرتبطة بحرية الجسد، وممارسة الجنس بلا ضوابط، والتعري أمام الملأ العام بلا حياء ولا خجل.. وقد أدى ذلك إلى الفساد الاجتماعي، والتحلل الأخلاقي، وتحطم كيان الأسرة والعائلة، وتدمير البنية الأخلاقية والروحية والقيمية للشباب والفتيات!


ونتيجة لهذه المفاسد وغيرها الناتجة من الحرية الجنسية المطلقة، فقد حرم الإسلام جميع أنواع الانحرافات الجنسية، وشرع عقوبات شديدة وصارمة لمن يقترفها، وجعل الزواج الشرعي هو الطريق الفطري والأخلاقي الوحيد لتصريف الطاقة الجنسية


المراهقة والغريزة الجنسية


تتميز مرحلة المراهقة -والتي تبدأ من فترة ما بعد البلوغ وتنتهي عند بداية العشرينيات- بتحولات وتغيرات كثيرة ومتنوعة على الشخصية الإنسانية، وتبرز هذه التغيرات نتيجة للتطور البيولوجي والسيكولوجي المصاحب لامتداد الزمن في حياة الإنسان.

ومن جملة التغيرات على شخصية المراهق هو الانتقال من مزاج إلى آخر بسرعة، ونمو الجسم نمواً سريعاً، وظهور حالة الاحتلام عند الشباب، والحيض عند الفتيات؛ كما أن المراهق يكون ذا شهية مُفْرطة، فهو دائم الإحساس بالجوع، فلا يكاد ينتهي من تناول وجبة من الطعام حتى يفكر في تناول وجبة أخرى! وربما يعود ذلك إلى نمو الجسم في هذه الفترة الزمنية بسرعة تفوق كل المراحل الأخرى.


وتتميز مرحلة المراهقة بمحاولة توكيد الشخصية، وإثبات الذات، والميل إلى المنافسة، والشعور بالتفوق، والتحليق في عالم الأحلام والخيال والأمنيات، والتمرد على القيم الاجتماعية، والاستخفاف بالكبار، والشعور بالعجب والغرور!


ويتصف الكثير من المراهقين بالتمرد والعناد، والشقاوة، والعدوانية، والأنانية، وحب المظاهر، وإهدار وقت الفراغ، ومعاكسة الفتيات، والقيام بحركات غير طبيعية للفت أنظار الآخرين.. وتزداد هذه السلوكيات قوة وظهوراً فيمن لا يمتلكون قدراً معقولاً من التربية الدينية، والتوجيه الأخلاقي، والالتزام بالتعاليم الدينية، أما الأشخاص الذين يتمتعون بالتربية والتوجيه والالتزام فتكاد مثل تلك السلوكيات غير السوية أن تختفي منهم، وربما تختفي تماماً.
ومن أهم التغيرات في شخصية المراهق استيقاظ الغريزة الجنسية، والشعور بالحاجة إلى إشباعها، وربما أدى ذلك إلى الانحراف الجنسي خصوصاً مع انعدام المراقبة الواعية، والتوجيه الإسلامي، والتربية الأخلاقية.


ولذلك كله، فإن الآباء يتحملون مسؤولية كبيرة في هذه المرحلة الحرجة -والتي تتراوح بين ست وثماني سنوات- من حياة أبنائهم، وعليه يجب بذل كل الجهود لحماية الأبناء في هذه المرحلة من الانزلاق في أودية الانحراف والضلال، إذ يسهل على الأشرار استقطاب المراهقين نحو الرذيلة والفحشاء؛ إذ أن كثيراً من المراهقين يسقطون في مستنقع الرذيلة والفحشاء في هذه الفترة الزمنية، فيرتكبون الفاحشة تلو الفاحشة، والرذيلة تلو الرذيلة، والجريمة تلو الجريمة، وربما أدمنوا على ذلك كله!

ولحماية الشباب من الوقوع في شباك الانحراف يجب المسارعة إلى تزويجهم؛ فهذا هو الطريق الفطري والفعّال لحماية الأولاد من الوقوع في الحرام؛ كما أن للتربية الأخلاقية، وزرع القيم الدينية في النفوس، وتربية الشخصية المسلمة وفق المعايير الدينية والأخلاقية.. أكبر الأثر في وقاية المراهقين والمراهقات من الوقوع في دائرة الحرام.


الحب والزواج


الحب والكره من مكونات النفس الإنسانية؛ فكما يشعر الإنسان بالجوع والعطش، واللذة والألم، كذلك يشعر بالحب والكره؛ وهذا الشعور متأصل في أعماق النفس الإنسانية.


والحب يعني النزوع إلى الشيء، بينما الكره يعني النفور من الشيء؛ فالإنسان لابد وأن يشعر بالحب تجاه نفسه، وتجاه عائلته، وأصدقائه، وتجاه كل ما ينجذب إليه؛ بينما ينفر من أعدائه وكل ما يسبب له نفوراً نفسياً.


ولذلك فالحب الإنساني، وكذلك الكره، أمر فطري لا يستطيع أي واحد منا أن يلغيه من كيانه ولو أراد ذلك.


لقد سُئل الإمام الصادق (عليه السلام ) عن الحب، فأجاب: (( وهل الدين إلا الحب )) فحب اللَّه سبحانه وتعالى، وحب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته، وحب المؤمنين، وحب الخير والحق والقيم.. كل ذلك من الدين، ولا يكتمل إيمان المرء إلا به.


ومن الطبيعي أيضاً أن يحب الإنسان أقرب الناس إليه كأبيه وأمه وزوجته وإخوانه وأخواته وأصدقائه ومعارفه؛ وهذا الحب مطلوب ومرغوب فيه، بل إن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يسوده السلم الأهلي، وسلامة العلاقات الاجتماعية، وشياع المودة والمحبة بين أفراده إلا بالحب الصادق.


أما الحب المتصل بالجانب الغريزي والعاطفي للإنسان؛ كأن يحب الشاب فتاة ويعجب بها، أو تحب الفتاة شاباً وتتمنى الاقتران به، فإن كان في حدود الحب كحالة نفسية غير اختيارية، فيجب أن لا يتجاوز حدود الشعور القلبي بالمحبة للطرف الآخر، إذ لا يجوز أن يتطور الحب غير الاختياري إلى ممارسات أو حركات أو علاقات للتعبير عن الحب العاطفي، وإذا كان هناك حب حقيقي وصادق بين شاب وفتاة فليكن من خلال الزواج الشرعي؛ فالمحبة الحقيقية يجب أن تبدأ وتنتهي بالزواج، ولا يجوز أن تكون هناك علاقة بين شاب وفتاة قبل إجراء عقد النكاح بينهما.


أما الحب العاطفي الاختياري بين الشباب والفتيات، والقائم على ما يسمى بالصداقة، فهو لا يعدو أن يكون إلا شعاراً لممارسة الشهوات، والانغماس في بحر الملذات، فقد تحول الحب في عصرنا إلى شعار لكل طالب لذة، وباحث عن متعة.. وهذا النوع من الحب المبتذل الرخيص يحرمه الإسلام ولا يقره.
وفي فترة المراهقة وبداية الشباب ينغمس عديمو الإيمان في إقامة علاقات عاطفية غير شرعية قائمة على ما يسمى بالحب؛ وهو لا يعدو أن يكون إلا ممارسة للشهوة، وإشباعاً للغريزة، واستمتاعاً باللذة المحرمة!

والإسلام يحرم إقامة العلاقات العاطفية بين الشباب والفتيات قبل الزواج لما فيه من مفاسد كبيرة وكثيرة على الأفراد والمجتمعات، وكذلك لما له من آثار تدميرية للبنية الأخلاقية والقيمية والأسرية.


(( إن إقامة أية علاقات قبل الزواج، ستكون عاطفية مائة في المائة، والعلاقات العاطفية لا تخدم أي من الزوجين:


أولاً: لأن إقامة العلاقة - قبل أن يرتبط الزوج بعقد شرعي ملزم- قد تؤدي به إلى ممارسة الجنس مع الفتاة خاصة وأن هناك وجه شبه بين لقاء الرجل بالمرأة، ولقاء الزيت بالنار. فإذا وقعت (الواقعة) فلا تملك الفتاة حينئذٍ إلا أن تصبح زوجته، بينما يملك الرجل أن يتهرب من الزواج بها، وهذا يعني أن العلاقة المسبقة تحد من حرية المرأة بينما تطلق حرية الرجل.


ثانياً: إن العلاقة الشهوية بين الشاب والفتاة قد تحملهما على (الزواج) قبل أن تسمح الشهوة الثائرة في الطرفين فرصة التفكير الموضوعي في (الزواج).


إن الحب عاصفة نفسية تحمل عاطفة ونزوة قد تهمد وتخمد بمرور الزمن، فيفتح الطرفان عيناهما على بعضهما البعض ليجد الزوج أن زوجته غير الإنسانة التي تعبَّدها، وتجد الزوجة أن زوجها غير الذي كانت تحلم به.


إن الحب الشهواني لن يكون عاملاً من عوامل الزوجية السعيدة، والحب الروحي لن يتسنى إلا بعد الزواج، إذن فلماذا المغامرة بمصير الفتاة بدفعها إلى إقامة علاقات الحب قبل الزواج؟


إن الإنسان في أغلب الأحيان يبدأ الحب في سنوات المراهقة، وهذا الحب لا يكون حقيقياً صادقاً، وما هو إلا شهوة تخدع الشاب وتغرر به، وهذه الشهوة -أو على الأصح الرغبة- غالباً ما تختفي في مظهر الحب، حتى إذا أطفأت ظمأها، انقلبت نقمة بل سعيراً، والشاب في عنفوان شبابه لا يدري فيما إذا كان حبه صادقاً أم خيالياً شهوانياً؟!


بالإضافة إلى أن هذا الخداع العاطفي الذي تلبس فيه (( الغرائز الجنسية )) ثوب الحب ليس مقصوراً على المراهقين وحدهم من أبناء الخمسة عشر ربيعاً، بل إنه كثيراً ما يغرّر بأشخاص تجاوزوا سن المراهقة، وتقدموا موغلين في مرحلة الشباب، وقد يغرّر أحياناً بمن تجاوزوا مرحلة الشباب ذاتها، ذلك لأن من الأفراد من يعيشون في فترة المراهقة من الناحية العاطفية مهما تقدموا في السن.


وبكلمة، فإن الانفعالات النفسية أو الجنسية تتخذ أمام الشاب أو الفتاة صورة الحب، وما هو من الحب الحقيقي في شيء، وإنما هي نزوات عابرة لا تلبث أن تستهلك نفسها في المحاولات التي تبذل لإرضائها أو إشباعها، فتفنى ولا تخلف وراءها سوى الحسرات والأوجاع والدموع.
ولقد أثبتت التجارب: أن الشاب الذي قد يشعر بلذة من استعداد الفتاة لتسليم نفسها إليه كثيراً ما يحتقرها بغريزته لهذا الاستسلام غير المشروع، فما يكاد ينال منها مأربه حتى تسقط في نظره!


ثالثاً: إننا إذ نحرم العلاقات قبل الزواج فإنها تتمشى مع روح العصر، فالزمن قصير لا يحتمل الدخول في تجارب قد لا يكتب لها النجاح. إنما نحن نقول للرجل: قم بحساب دقيق عن زوجتك المحتملة؛ ادرسها جيداً ثم اخترها كشريكة. وكذلك نقول للمرأة، ادرسي زوجك جيداً ثم اختاريه كشريك حياة )) (4 ).


ومما يؤسف له أن الكثير من الفتيات في عصرنا يقعن فريسة سهلة للشباب باسم الحب والعشق والغرام؛ إذ ينخدعن بسرعة بكلمات الحب والغزل التي يجود بها الشباب عليهن، ولا تنكشف الحقيقة إليهن إلا بعد فوات الأوان؛ إذ كثيراً ما تنتهي مثل هذه العلاقات العاطفية بالافتراق، ولا تصل إلى مرحلة الزواج، بل أن من يمارس عملية خداع الفتيات من الشباب لا يثق بالفتاة التي أعطته كل ما أراد من لذة واستمتاع، فهو يظل يبحث عن فتاة محترمة وملتزمة للزواج بها.


ومن هنا، فالواجب الشرعي يفرض على كل فتاة أن تتمسك بالحجاب والعفة والحشمة، وأن تكون قوية الإرادة والشخصية في رفض إقامة أية علاقة عاطفية مع تجار الحب المبتذل، والإصرار على أن تكون ممارسة الحب بعد إجراء العقد الشرعي للزواج. فهذا هو الضمان الحقيقي للحفاظ على كرامة المرأة وعفتها؛ أما ممارسة العلاقات العاطفية قبل الزواج فلن يُورّث سوى الويلات والمآسي والحسرات!


الزواج المبكر


يشجع الإسلام على الزواج المبكر؛ لأنه الوسيلة الفضلى للحفاظ على استقامة الشباب والفتيات، وإشباع رغباتهم وميولهم الجنسية، ووقايتهم من الانزلاق في أودية الفساد والانحراف. كما أن الزواج المبكر يحقق التوازن الداخلي، والاستقرار النفسي، والسعادة المنشودة.


وينظر الإسلام للزواج على أنه سنة طبيعية من سنن اللَّه الكبرى، ومظهر من مظاهر الكون، وحاجة إنسانية ملحة، يقول اللَّه تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(5 )، ويقول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم ): (( النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني )) (16)، وقال الإمام علي(عليه السلام ): (( تزوجوا فإن رسول اللَّه كثيراً ما كان يقول(صلى الله عليه وآله وسلم ): من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج فإن من سنتي التزويج )) (17).


والزواج المبكر أفضل وسيلة للقضاء على الفساد، ومحاربة الشيطان ووساوسه، يقول النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم ) : (( أيما شاب تزوج في حداثة سنه عجّ شيطانه: يا ويله! عصم مني دينه )) (18)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: (( ما من شاب تزوج في حداثة سنه إلا عجّ شيطانه: يا ويله، يا ويله! عصم مني ثلثي دينه، فليتق اللَّه في الثلث الباقي )) (19)، كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) أن من تزوج فقد أحرز نصف دينه، كقوله(صلى الله عليه وآله وسلم ): (( إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق اللَّه في النصف الباقي )) (20).

وبالرغم من كل ما ورد في التعاليم الدينية من الحث والترغيب في الزواج المبكر؛ إلا أنه يلاحظ في عصرنا عزوف الكثير من الشباب والفتيات عن الزواج المبكر، وتفضيل الزواج في سن متأخرة على ذلك، وذلك بفعل التهاويل التي ضخمها الإعلام الحديث في مسألة الزواج، وكذلك بسبب تغير الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية، بحيث أصبح الزواج يتطلب المزيد من التكاليف والنفقات، حتى أصبح الزواج المبكر غير متيسر لأغلبية الناس.

عوائق الزواج المبكر:


ويمكننا تحديد أهم عوائق الزواج المبكر وعلاج ذلك ضمن النقاط التالية:


1 - التكاليف الباهظة:


أصبح الزواج في مجتمعنا يتطلب ميزانية ضخمة تثقل كاهل الشباب من ذوي الدخل المحدود، فلكي يتزوج الشاب عليه أن يعمل عدة سنوات كي يتمكن من توفير ما يحتاجه من مال لشراء ما يتعلق بشؤون الزواج، أو الاستدانة من البنوك، أو الأصدقاء، مما يحوله إلى مديون لعدة سنوات يجب عليه خلالها أن يسدد ما عليه من ديون الزواج!


لقد ساهمت العادات والتقاليد والأعراف في تعقيد مسألة الزواج، فمن المهور المرتفعة، مروراً بالحفلات المتعددة، والشروط المتنوعة، والتشريفات الكثيرة، وانتهاءً بالولائم وتأثيث الشقة بكل ما لذَّ وطاب!


أما الزواج في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد كان سهلاً يسيراً، فقد كان الرجل على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )يتزوج المرأة على السورة من القرآن، وعلى الدرهم، وعلى القبضة من الحنطة! .. وإلى عهد قريب كان الزواج متيسراً رغم الفقر والحاجة والعوز، وكان الزواج المبكر هو الغالب إلى ما قبل ثلاثين سنة المنصرمة من الآن(21).


ولكي نيسر الزواج، وتُرَغِّب في الزواج المبكر، علينا جميعاً أن نسعى إلى تقليل التكاليف.. فنقلل من الحفلات والتشريفات والولائم الزائدة، وكذلك ينبغي أن يكون المهر معقولاً، فقد روي عن الرسول قوله: (( أفضل نساء أمتي أحسنهن وجهاً، وأقلهن مهراً )) (22)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: (( إن من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها )) (23)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: (( خير الصداق أيسره )) (24)، وإذا كان من يُمن المرأة قلة مهرها، فإن من شؤم المرأة كثرة مهرها، يقول الإمام الصادق(عليه السلام ): (( أما شؤم المرأة فكثرة مهرها، وعقوق زوجها )) (25).


2 - التفاوت الطبقي:


يُعد التفاوت الطبقي من الأسباب الرئيسة في تعقيد الزواج، ونقصد بالتفاوت الطبقي الاختلاف الكبير بين عائلتين من الناحية الاعتبارية: كالغنى والفقر، والقوة والضعف، والقبيلة الكبيرة والصغيرة.. وما إلى ذلك من عوامل تؤدي إلى شعور بالتعالي من قبل أهل المال والجاه والقوة، إذ كثيراً ما نجد الرفض من جهة الشريحة المتعالية إذا تقدم إليها من هو أدنى منها.


أما الإسلام فإنه يعتبر الدين والأخلاق هو معيار التفاضل وليس المال والجاه والمنصب والعائلة، يقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم ) : (( إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب [إليكم] فزوجوه، إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير )) (26)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام ): (( إذا خطب إليك رجل رضيت دينه وخلقه فزوّجه، ولا يمنعك فقره وفاقته، قال اللَّه تعالى: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا، وقال: ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ.. )) (27)، فالدين والأخلاق هو معيار التفاضل وليس المال والجاه والمنصب.


ومن المفيد هنا أن نذكر قصة زواج جويبر بالزلفاء والتي حدثت في عهد رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم ):


كان جويبر رجلاً قصيراً ذميماً، محتاجاً عارياً، وكان أسود من قباح السودان، وكان من أهل اليمامة، جاء إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) طالباً الإسلام، فأسلم على يده (صلى الله عليه وآله وسلم )، وحسن إسلامه، ضمنه رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) لحال غربته واحتياجه، فكان يجري عليه طعاماً صاعاً من تمر، وكساه شملتين، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث هناك ما شاء اللّه.
نظر رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى جويبر ذات يوم، وقال له: يا جويبر لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك

وأعانتك على دنياك وآخرتك.
فقال جويبر: يا رسول اللَّه بأبي أنت وأمي من يرغب فيَّ، فواللَّه ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأية امرأة ترغب بي؟!


فقال رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم ): يا جويبر إن اللَّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعزَّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية، وتفاخرها بعشائرها، وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم، أبيضهم وأسودهم، وقرشيهم وعربيهم وأعجميهم، من آدم وأن آدم خلقه اللَّه من طين، وأن أحب الناس إلى اللَّه عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً، إلا لمن كان أتقى للّه منك وأطوع.


ثم قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه من أشرف بني بياضة حسباً -وهي قبيلة من الأنصار- وقل له: إني رسول رسول اللَّه إليك وهو يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الزلفاء.


انطلق جويبر برسالة رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله ورهط من قومه لديه، فاستأذنه بالدخول، فأذن له، فدخل فسلَّم عليه، ثم قال: يا زياد بن لبيد إني رسول رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم ) إليك في حاجة لي، فأبوح بها أم أسرها إليك؟
فقال له زياد: بل بح بها، فإن ذلك شرف لي وفخر، فقال له جويبر: إن رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول لك: زوج جويبراً ابنتك الزلفاء.
فقال له زياد: أرسول اللَّه أرسلك إليَّ بهذا؟!

- نعم، فما كنت لأكذب على رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم ).


فقال له زياد: إنّا لا نزوج فتياتنا إلا أكفاءنا من الأنصار!


ثم قال له: انصرف يا جويبر حتى ألقى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم )فأخبره بعذري.


انصرف جويبر وهو يقول: واللَّه ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم ). فسمعت مقالته الزلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها تستدعيه، فدخل إليها، فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعتك تحاور به جويبراً؟

فقال لها: ذكر لي أن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) أرسله، وقال: يقول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم ): زوج جويبراً ابنتك الزلفاء.


فقالت له: واللَّه ما كان جويبر ليكذب على رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) بحضرته فابعث الآن رسولاً يرد عليك جويبراً.


فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً وجاء به، فقال له زياد: يا جويبر مرحباً بك، اطمئن حتى أعود إليك. ثم انطلق زياد إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال له: بأبي أنت وأمي إن جويبراً أتاني برسالتك وقال: إن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول لك: زوّج جويبراً ابنتك الزلفاء فلم ألِن له بالقول ورأيت لقاءك، ونحن لا نزوج فتياتنا إلا أكفاءنا من الأنصار.


فقال له رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ): يا زياد جويبر مؤمن، والمؤمن كفوء للمؤمنة، والمسلم كفوء للمسلمة، فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه.
رجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم ).. فقالت له: إنك إن عصيت رسول اللَّه كفرت، فزوج جويبراً، فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثم أخرجه إلى قومه، وزوجه على سنة اللَّه وسنة رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) وضمن صداقه.
جهز زياد ابنته الزلفاء وهيأها ثم أرسلوا على جويبر فقالوا له: ألك منزل فنسوقها إليك؟ فقال: واللّه ما لي من منزل. فهيأوا لجويبر منزلاً وأثثوه بالفراش والمتاع وكسوا جويبراً ثوبين وأدخلت الزلفاء بيتها وأدخل جويبراً عليها.


وعاش مع زوجته بسعادة وأنس وصفاء، إلى أن خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى غزوة، فخرج معه فاستشهد، وبعد استشهاد جويبر، لم تكن في الأنصار امرأة حرة أروج في رغبة الناس إلى الزواج منها وبذل الأموال الطائلة في الحظوة بها من الزلفاء(28).


وبهذا الزواج حطَّم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) العادات والتقاليد والأعراف الجاهلية التي كانت تقدس المال والجاه والقوة والعشيرة والقبيلة، وتتفاخر بالأولاد والأموال والوجاهة والزعامة، وغرس في نفوس المسلمين بدل ذلك قيم التقوى والإخلاص والعمل الصالح والأخلاق الحسنة.


وفي هذه القصة وأمثالها الكثير من الدروس الأخلاقية والتربوية، حيث إنها تعمق البنية الدينية في القلوب، وتقوي القيم الروحية والمعنوية في البناء الذاتي، وتجذر القيم الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية.


3 - الأفكار الخاطئة:


تساهم الأفكار الخاطئة بصورة قوية في تأخير الزواج؛ ومن هذه الأفكار: عدم صلاحية الزواج إلا بعد الانتهاء من الدراسة، والوصول إلى مرحلة النضج العقلي الكامل، والقدرة على تحمل مسؤوليات الزواج من الإنجاب والتربية وإدارة الأسرة، وإمكانية تحمل تكاليف الزواج الباهظة.. إلى غير ذلك من الأفكار المضخمة والخاطئة.


إن الإسلام حينما يدعو إلى الزواج ويحث عليه مبكراً فلأن الزواج يحقق عملية الإشباع الجنسي للرجل والمرأة على حد سواء، وإن إشباع الغريزة الجنسية لا يمكن أن يتم بالحلال إلا من طريق الزواج.


أما مسألة النضج العقلي، والقدرة على القيام بمسؤوليات التربية؛ فهذا أمر ينمو مع الزمن، فحتى لو تزوج الإنسان وهو في عمر متأخر فهذا لا يعني بالضرورة أنه قد بلغ الرشد العقلي، أو امتلك مقومات التربية الصحيحة. أما فيما يخص تكاليف الزواج فهذا أمر عقدته الأعراف الاجتماعية، وحله يكمن في التفكير الجدي، والسعي الحثيث من أجل تقليل التكاليف. أما أن الدراسة تعوق الزواج، فالواقع يخالفه؛ إذ أن كثيراً ممن تزوجوا مبكراً لم ينقطعوا عن الدراسة، بل حققوا نتائج ممتازة في دراساتهم.


إن الكثير من الأفكار الخاطئة التي تدعو إلى تأخير الزواج إنما هي مُصَدَّرة إلينا من الغرب، والذي أطلق العنان للحرية الجنسية، والعلاقات الجنسية المفتوحة، بل والممارسة الجنسية في كل مكان من دون حياء أو خجل، ولذلك فهم لا يشعرون بضرورة الزواج المبكر، بل يوجد في الغرب دعوات لإلغاء الزواج من أساسه، والدعوة إلى ممارسة الجنس بصورة مفتوحة وجماعية!


وللقضاء على الأفكار الخاطئة لابد من بذل قصارى الجهود في التوعية الاجتماعية، وتوضيح المفاهيم الإسلامية، وتعميق ا لقيم الروحية والأخلاقية، وتشجيع الزواج المبكر، وتسهيل أمور ومسائل الزواج، وقد لعبت مهرجانات الزواج الجماعي وصناديق الزواج الخيري المنتشرة في مجتمعنا دوراً مؤثراً في تسهيل شؤون الزواج، وزيادة الراغبين في الزواج المبكر.

أهداف الزواج


شرع الإسلام الزواج لأهداف سامية، وغايات نبيلة، ويمكن تلخيص أهم أهداف الزواج في النقاط التالية:


1- إشباع الغريزة الجنسية:


توجد في أعماق كل مخلوق إنساني مجموعة من الغرائز، ومن أهم هذه الغرائز وأقواها الغريزة الجنسية، ومع بداية البلوغ تبدأ هذه الغريزة بالاستيقاظ والهيجان، مما يدفع بالإنسان نحو إشباعها والحصول على المتعة واللذة بذلك، والطريق المشروع لإشباع الغريزة الجنسية هو الزواج.

والزواج الناجح من أبرز مقومات السعادة، إذ لا يمكن تصور العيش في الحياة بسعادة من دون بناء حياة زوجية هادئة، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(29) فالزواج يحقق السعادة والطمأنينة النفسية، ويشبع الحاجة إلى الحب والود والعطف والحنان.


وإذا لم يُشبع الإنسان غريزته الجنسية بالطرق المشروعة فإنه قد ينزلق إلى أودية الانحراف والفساد، وما أكثر الشباب والفتيات الذين دفعت بهم غرائزهم إلى السقوط في هاوية الانحراف الجنسي كممارسة الزنى، والشذوذ الجنسي كاللواط والعادة السرية والسحاق.. وذلك بفعل اتباع الهوى، وضعف الإيمان، وتأثير وسائل الإعلام المنحرف، والانسياق وراء المغريات الكثيرة والمتنوعة.

وقد أدى تزايد الانحرافات الجنسية إلى تزايد الأمراض الجنسية؛ فالأشخاص الذين يمارسون العلاقات الجنسية المنحرفة قد يصابون بأمراض مختلفة: كمرض السفلس، ومرض السيلان، ومرض الإيدز، وهذا الأخير من أخطر الأمراض لأنه يؤدي إلى الموت المحتم(30).


وقد حرَّم الإسلام جميع أنواع العلاقات الجنسية غير القائمة على الزواج الشرعي كالزنى واللواط، وجعل عقوبة من يرتكب مثل تلك الانحرافات شديدة وقاسية كي يرتدع كل من يفكر في ارتكاب مثل هذه الانحرافات المحرمة. وفي الوقت نفسه شجع الإسلام على الزواج المبكر، ورغَّب فيه، وحرَّض عليه، واعتبره أمراً عبادياً يُثاب المرء عليه ويؤجر.


2 - تكوين أسرة متماسكة:


يعتبر بناء الأسرة من أهداف الزواج الرئيسة، إذ أن الأسرة بمثابة مؤسسة إنسانية صغيرة وهي نواة المؤسسة الإنسانية الكبيرة (المجتمع).


والأسرة تتكون من رجل وامرأة وأولاد، وهذه التركيبة الأسرية تشبع رغبات شديدة الإلحاح في الرجل والمرأة، فبالنسبة للرجل (الزوج) تشبع رغبات القيادة والإدارة والأبوة، وفي المرأة (الزوجة) تشبع رغبات التربية والأمومة، وهذه الرغبات والحاجات النفسية والفطرية لا يمكن إشباعها إلا من خلال تكوين أسرة قائمة على الزواج، فلا يمكن إشباع مثل هذه الرغبات بغير ذلك؛ ولذلك فإن من يشبعون غرائزهم الجنسية بواسطة العلاقات غير الشرعية لا يمكنهم إشباع سوى الجانب الجنسي، لأن مثل هذه العلاقات المنحرفة لا يتم من خلالها تكوين الأسرة، فهم يعيشون في ضياع وشقاء وتعاسة وإن تظاهروا بخلاف ذلك.


والزواج هو الذي يجعل الرجل والمرأة يتحدان في روح واحدة، فيصبح الشخصان الغريبان عن بعضهما إلى الأمس القريب يندمجان في روح واحدة، ومنزل واحد، وقلب واحد، وأهداف واحدة، وأحلام واحدة!.. بالإضافة إلى ذلك، فالحياة الزوجية تعني تشكيل حياة مشتركة ومتسقة إلى درجة أن كل واحد منهما مستعد للتضحية والفداء من أجل الآخر، وإلى درجة أن ينصهر كل واحد منهما في بوتقة الآخر.


والإسلام ينظر إلى عملية التزاوج بين الرجل والمرأة على أنه جزء من نظام الزوجية العام، فكل الكائنات في النظام الكوني قائمة على نظام وقانون الزوجية، يقول اللَّه تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ(31).


3 - بقاء النوع البشري:


ومن أهداف الزواج الرئيسة والمهمة والضرورية هو بقاء النوع البشري واستمراره، إذ أن الوسيلة الطبيعية والشرعية الوحيدة للتكاثر والتناسل هو التناكح بين الرجل والمرأة، قال تعالى: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ...(32) فهذه الآية الكريمة تشير إلى السنة التكوينية الإلهية في التكاثر والتناسل والتوالد الناتجة من العلاقة الزوجية بين الزوج وزوجته.


ويحث نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) أمته على التكاثر والتوالد، حيث يقول (صلى الله عليه وآله وسلم ): (( تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط ))(2)، ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم ) (( النكاح سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم )) (34).


وحفظ النوع البشري وضمان استمراره من أسمى الأهداف؛ لأن النوع البشري سيد المخلوقات، فالإنسان هو أشرف الموجودات الكونية، بل إن كل الكائنات الأخرى، وكل ما في هذا الوجود إنما هو من أجل الإنسان، الذي كرّمه الخالق -تبارك وتعالى- وفضله على سائر المخلوقات الأخرى، ولا معنى للحياة الحقيقية من دون وجود الإنسان، ولا ضمان لوجود الإنسان إلا من خلال التوالد الطبيعي الحاصل من الزواج الشرعي.

الهوامش
( ) سورة النور، 32.
(2) ميزان الحكمة، ج4، ص271، رقم 7798.
(3) ميزان الحكمة، ج4، ص271، رقم 7802.
(4) ميزان الحكمة، ج4، ص273، رقم 7812.
(5) ميزان الحكمة، ج4، ص272، رقم 7809.
(6) ميزان الحكمة، ج4، ص273، رقم 7811.
(7) ميزان الحكمة، ج4، ص275، رقم 7821.
(8) كنز العمال، ج16، ص277، رقم 44449.
(9) كنز العمال، ج16، ص277، رقم 44448.
(0 ) كنز العمال، ج16، ص272، رقم 44408.
(11)سورة المؤمنون ،7.
(12) الأفكار والميول في علاقة الشباب والشيوخ والكهول، ج1، ص161.
(13) مشكلات الشباب.. الحلول المطروحة والحل الإسلامي، ص87.
(4 ) كيف تسعد الحياة الزوجية؟ ص29.
(5 ) سورة النور، 32.
(16) ميزان الحكمة، ج4، ص271، رقم 7802.
(17) ميزان الحكمة، ج4، ص271، رقم 7803.
(8 ) ميزان الحكمة، ج4، ص272، رقم 7805.
(9 ) ميزان الحكمة، ج4، ص272، رقم 7806
(20) ميزان الحكمة، ج4، ص272، رقم 7807.
(21) نحن الآن في عام 1421هـ ـ 2000م .
(22) ميزان الحكمة، ج4، ص279، رقم 7840.
(23) ميزان الحكمة، ج4، ص279، رقم 7842.
(24) ميزان الحكمة، ج4، ص279، رقم 7841.
(25) ميزان الحكمة، ج4، ص279، رقم 7839.
(26) ميزان الحكمة، ج4، ص280، رقم 7849.
(27) ميزان الحكمة، ج4، ص280، رقم 7850.
(28) قصص الأبرار،ص139، رقم القصة 78.
(29) سورة الروم ، 21.
(30) لحد الآن لايوجد أي علاج جذري وفعّال للقضاء على مرض الإيدز الفتاك ، ولذلك فكل من يُصاب به مصيره الموت بعد فترة قصيرة من الزمن .
(31) سورة يس ،36.
(32) سورة النحل، 72.
(33) ميزان الحكمة، ج4، ص271، رقم 7799.
(34) كنز العمال، ج16، ص271، رقم 44407.





18/6/1425
اضف هذا الموضوع الى: