الدولة المدنية وإشكالية المصطلح
الشيخ عبدالله اليوسف - 24 / 5 / 2012م - 12:40 م

مفهوم ( الدولة المدنية ) مفهوم حديث، وقد تكرس هذا المفهوم بعد انتصار العلمانية على الكنيسة في الغرب بعد صراع مرير بين الطرفين، نتج عنه استقلال أجهزة الدولة من تدخلات الكنيسة وسلطتها، واقتصار دور الكنيسة على التوجيه الروحي والمعنوي لأتباعها؛ بعد ما كانت ممسكة بكل مفاصل الدولة في البلاد الغربية.

ومع مرور الزمن تحول مفهوم ( الدولة المدنية ) للتعبير عن الدولة العصرية والحديثة القادرة على استيعاب المتغيرات المتسارعة في مختلف مجالات الحياة، كما أن مؤسسة الدولة في الغرب قد تطور كثيراً سواء في آلياتها وأجهزتها، أم في طريقة إدارتها وتنظيمها، أم في وظائفها ومهامها؛ إذ أن مصطلح ( الدولة ) قد بدأ تداوله منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وأخذ هذا المصطلح في التبلور والتطور ليعبر عن دلالات معينة؛ فالدولة الحديثة في الجغرافيا السياسية تتكون من مقومات ثلاثة وهي: الشعب، والأرض، والسلطة الحاكمة.

وبالرغم من السياق التاريخي لمفهوم ( الدولة المدنية) في الغرب، وهو ما قد يثير حساسية بعض المسلمين من تبنيه باعتباره وليد الثقافة الغربية؛ إلا أن هذه الحساسية تنعدم ـ أو هكذا يجب أن يكون ما دام المفهوم قد انفصل عن سياقه التاريخي. كما أن هذا المفهوم قد تطور أيضاً فأخذ يعبر عن القيم المثلى في (الحكم الصالح) كقيمة العدالة، وقيمة المساواة، وقيمة الحرية، وقيمة احترام حقوق الإنسان، وقيمة سيادة القانون .... إلى آخر ما هنالك من قيم ومثل تشكل بمجموعها ( الحكم الصالح ) للمجتمع وهو ما يدعو إليه الإسلام أو يشجع عليه أو لا يمنع منه ما دام لا يتعارض معه.

وعندما نتأمل في النصوص الدينية لا نرى فيها ما يدعو إلى شكل محدد للدولة، وإنما نجد الكثير من النصوص التي تؤكد على القيم والمبادئ التي يجب أن تستند إليها الدولة، وبعبارة آخرى: يمكن القول أن الإسلام يركز على المبادئ والقيم السياسية، ويترك شكل الدولة وطريقة إدارتها للمتغيرات الزمانية والمكانية؛ فالدولة باعتبارها ضرورة من ضرورات الاجتماع السياسي يجب أن تقوم للحفاظ على النظام والانتظام، وتنظيم إدارة شؤون الناس، أما شكلها ولونها وطريقتها فهي متروكة للناس أن يطوروا فيها بما تقتضيه مصالحهم التي تتغير من حين لآخر.

والدولة المدنية كتعبير حديث عن عصرنة الدولة وتحديثها بما يتلاءم مع التغيرات الجديدة،لا تتعارض مع تطبيق الشريعة الإسلامية، مادامت الدولة مرجعيتها الإسلام، أو هكذا يجب أن تكون في البلاد الإسلامية، فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام الكلية فلا يوجد ما يمنع من تطوير الدولة والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة كمنجز إنساني يجب استثماره لصالح تقدمنا وتطورنا.

وقد كانت البلاد الإسلامية ومنذ قرون سالفة تعاني من مشكلة تبني الدولة لمذهب معين أو لمدرسة فقهية معينة، أو لتيار ديني محدد؛ وأكبر مثال لذلك ما حدث أيام الدولة العباسية عندما حدثت فتنة خلق القرآن، أو تبني مدرسة المعتزلة أو الأشاعرة؛ وقيام الدولة بقمع بقية المذاهب والمدارس الفقهية والكلامية تحت شعار ( تطبيق الشريعة ) وهو في الحقيقة لايعدو كونه تبني لرأي واحد أو لمدرسة واحدة؛ وهو ما أدى إلى تقليص مساحة الحريات العامة، والقضاء على الإبداع العلمي والثقافي، وقمع الرأي الآخر... وهو ما يتنافى مع الفكر السياسي الإسلامي. في حين أن على الدولة أن ترتكز على مرجعية الإسلام، وتعطي الحرية المتكافئة للجميع ليعبروا عن أفكارهم ومذاهبهم ومدارسهم المتنوعة.

ومن جهة أخرى فإن مفهوم ( الدولة الدينية ) كمصطلح لم يرد في النصوص الدينية؛ بمعنى أن قيم ومبادئ الإسلام السياسية لا تؤسس لحكم ثيوقراطي، وإنما المطلوب هو التزام الدولة كمؤسسة تنظيمية بمرجعية الإسلام، و منع سن أي قانون مخالف لثوابته القطعية، أما الاستفادة من القوانين الحديثة فهو شيء مطلوب كقانون المرور أو قانون الإدارة أو قانون العمل أو غيرها من القوانين التي لم يرد فيها نص صريح، ولا يوجد فيها ما يخالف الشرع المقدس.

ومفهوم ( الدولة الدينية ) ناتج من الخلط الواضح بين ضرورة أن تكون مرجعية الدولة في البلاد الإسلامية هو الإسلام، وبين آليات ووسائل وطرق إدارة الدولة، فالتزام الدولة بالمرجعية الإسلامية لا يعني تأسيس نظام حكم ثيوقراطي، وإنما يعني أن نسن القوانين في الدولة الإسلامية وفق الشريعة الإسلامية أو بما لا يتعارض معها، أما أن يكون الحاكم عالم دين أو عالم دنيا فهذا خاضع لاختيار الناس، على أساس أن العلاقة بين الحاكم والمحكومين يجب أن تنبثق من صيغة تعاقدية بينهما، مرتكزة على الاختيار وليس القهر والغلبة؛ فالدولة ليست بديلة عن الناس وإنما هي تعبر عن إرادتهم السياسية والقانونية والتنظيمية في الشؤون العامة.

وعندما نحاول أن نقرأ مسيرة وتطور الدولة كمفهوم وواقع له دلالات منذ القدم وحتى الآن فسنجد التطور الهائل في آليات الدولة وطرق إدارتها وتنظيمها، فالدولة في الماضي كانت بسيطة، وتدار بطريقة سهلة، أما الآن فأصبحت الدولة جهاز تنظيمي صخم جداً، وتدار بطريقة أكثر تنظيماً، وأدق إدارة، وأكبر استفادة من التقنية عالية الجودة؛ إذ أصبحنا الآن نتداول مفهوم ( الدولة الإلكترونية ) وهو ما كان مفقوداً حتى وقت قريب.

والإسلام الذي يشجع على التطور والتقدم ويدعو إليه فيما يرتبط بالوسائل والآليات، لا يمانع من تطور الدولة وتحديثها بما يخدم مصالح الناس ويحافظ على مكانتها واستمرارها باعتبارها ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني والسياسي.

ومفهوم ( الدولة المدنية ) إذا كان يعبر عن التطور والتحديث المستمر في الآليات والإدارة والتنظيم، فهو ليس فقط لا يتعارض مع الإسلام؛ بل هذا ما يدعو إليه الإسلام ويشجع عليه، فنحن هنا لا نتحدث عن الثوابت التي لا بطالها التغيير ولا التبديل، وإنما نتحدث عن الجانب المتغير والقابل للتغيير كالآليات الحديثة في إدارة الدولة وتطويرها.

والمهم في الموضوع ليس هو المصطلح بحد ذاته، وإنما مفهومه ومحتواه، فإذا افترضنا أن هناك من يريد من مفهوم ( الدولة المدنية ) عزل الدين عن الحياة وتعليق الالتزام بمرجعية الإسلام، فهذا أمر مرفوض من كل مسلم. أما إذا كان الهدف منه هو تطوير الدولة وتحديثها بما يضمن الحفاظ على المصالح العامة، وتوفير الحريات العامة للناس، وسيادة القانون، وتكافؤ الفرص أمام كل المواطنين، وتعميق مفهوم المواطنة... فهذا ما يجب أن تقوم به الدولة الحديثة، ولنسمها بعد ذلك بأي مفهوم يحبه الناس !

اضف هذا الموضوع الى: