دور السيد أبو الحسن الأصفهاني في تعزيز قيمة العلم ومكانة العلماء
الشيخ عبدالله اليوسف - « مجلة الفقاهة- العدد17 » - 6 / 2 / 2011م - 5:13 ص

 بطاقة حياة

       ولد السيد أبو الحسن بن السيد  محمَّد بن السيد  عبد الحميد بن السيد  محمَّد الموسوي الأصفهاني، في قرية (( مديس )) وهي تبعد قليلاً عن مدينة أصفهان سنة 1284هـ.


       تلقى دروسه الأولى في مسقط رأسه، ثُمَّ رحل عنها وهو في أوائل العقد الثاني من عمره إلى أصفهان، فدرس عند أبرز علمائها أمثال الشيخ محمَّد الكاشاني، حتّى أتـمّ رحلة السطوح، وبدأ بحضور درس البحث الخارج


       هاجر بعدها إلى النجف الأشرف سنة 1308هـ، فحضر درس الميرزا حبيب اللّه الرشتي في الفقه، حتى وفاته، ثُمَّ لازم الآخوند الخراساني، فحضر دروسه في الفقه والأصول، حتى وفاته سنة 1329هـ.


       استقل بالتدريس بعد وفاة أستاذه الآخوند الخراساني، وبدأ يشتهر في الأوساط العلمية شيئاً فشيئاً، وأخذت الأنظار تتجه إليه كمجتهد كبير، ومرشح بارز للمرجعية الدينية.


       انحصرت المرجعية الدينية في النجف الأشرف فيه بعد وفاة آية اللّه الميرزا حسين النائيني سنة 1355هـ، فقلّده النّاس في العراق والبلدان الأخرى، وطبقت شهرته الآفاق، وأصبح مرجع الشيعة ومفتيها في كل أنحاء العالم.


       كانت له مواقف سياسية بارزة ومؤثرة في مسيرة الأحداث والتطورات في إيران والعراق، فقد شارك في الهيئة التي شكلت لتولي مهام الإعداد والتخطيط للعمل الجهادي ضدّ الجيوش الروسية أثناء احتلالها لشمال إيران سنة 1329هـ، حيث كان أحد أعضاء هذه الهيئة.


       حمل السلاح في ثورة العشرين في العراق، وذهب مع المجاهدين إلى ساحة المعركة، ثُمَّ عاد إلى النجف الأشرف بإلحاح من زعماء الثوار، كي يقوم بدوره العلمي في الحوزة.


       عارض بشدة الانتداب البريطاني، ودعا – مع سائر كبار الفقهاء- إلى إزالة أية سلطة أجنبية عن الحكومة العراقية، وإلى مقاطعة انتخابات المجلس التأسيسي بعد تشكيل الحكومة في 30 أيلول سنة 1922م، وقرارها السابق على توقيع المعاهدة مع بريطانيا.

       أفتى بحرمة محاربة الأتراك إذا هاجموا العراق في قضية النـزاع على مدينة الموصل التي لـم تُحسم حتّى ذلك الوقت بين العراق وتركيا، حيث كان الإنكليز وراء تحريك المسألة سنة 1923م.


       خرج على رأس مجموعة من علماء النجف في تظاهرات بعد سقوط الحكومة آنذاك، وقيام عبد المحسن السعدون بتشكيل حكومة جديدة، احتجاجاً على الوضع الذي كانت تعيشه العراق في ذلك الوقت، فقررت السلطات اعتقال المشاركين، فاعتقل أبو الحسن الأصفهاني، والميرزا النائيني، وجرى تسفيرهما إلى إيران سنة 1341هـ. وبقيا في إيران نحو السنة، ثُمَّ عادا إلى العراق.


       ابتدأ بعد عودته إلى العراق فترة جديدة من حياته اتسمت بالعمل الثقافي والاجتماعي، والتأكيد على الجانب التعليمي، حيث قام بتأسيس العديد من المدارس الدينية في بغداد والنجف والبصرة وكربلاء، وكان يرعى ويساند مدارس ومؤسسات جمعية(( منتدى النشر)) التي تأسست سنة 1353هـ ـ1935م.


        توفي في الكاظمية بالعراق في التاسع من ذي الحجة سنة 1365هـ، ونقل جثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف ودفن هناك[1] .


       وله مؤلفات عديدة وكتب مفيدة في الفقه وفي أصول الفقه بالعربية والفارسية، ومنها ما هو مترجم للغة الهندية واللغة التركية، ومنها ما هو مطبوع ومنها ما هو غير مطبوع، وأهم ما عرفناه منها:


       أولاً: شرح على كفاية الأصول للمولى محمد كاظم الخراساني في مجلدين.
       ثانياً: رسالة وسيلة النجاة الكبرى وهي كتاب فقهي جليل ألّفه على العروة الوثقى من تأليف العلامة السيد كاظم اليزدي.
       ثالثاً: رسالة وسيلة النجاة الصغرى وهي رسالة فقهية تتضمن الأمور التي يحتاجها الناس.
       رابعاً: رسالة ذخيرة العباد طبعت في النجف وطهران سبعين مرة.
       خامساً:  رسالة ذخيرة الصالحين طبعت 42 مرة.
       سادساً: رسالة منتخب الرسائل طبعت 37 مرة.
       سابعاً: أنيس المقلدين طبعت 34 مرة
       ثامناً: صراط النجاة فارسية طبع فارس، والهند 5 آلاف طبعة.
       تاسعاً: عروة الوثقى طبعات متعددة 30 ألف نسخة.
       عاشراً: حاشية العبادات والمناسك 30 طبعة
       وهناك كتب أخرى غير مطبوعة [2] .

       مدخل

        يعد السيد أبو الحسن بن محمد بن عبد الحميد بن محمد الموسوي الأصفهاني (1284-1365هـ - 1866- 1945م) من أشهر مراجع التقليد في النصف الأول للقرن العشرين الميلادي، حيث انحصرت المرجعية الدينية فيه بعد وفاة الشيخ الميرزا حسين النائيني  سنة 1355هـ، ومنذ ذلك الوقت أصبح مرجع المسلمين الشيعة في كل أنحاء العالم بلا منازع.

يعد السيد أبو الحسن بن محمد بن عبد الحميد بن محمد الموسوي الأصفهاني (1284-1365هـ - 1866- 1945م) من أشهر مراجع التقليد في النصف الأول للقرن العشرين الميلادي، حيث انحصرت المرجعية الدينية فيه بعد وفاة الشيخ الميرزا حسين النائيني سنة 1355هـ، ومنذ ذلك الوقت أصبح مرجع المسلمين الشيعة في كل أنحاء العالم بلا منازع.

       وقد تميز السيد الأصفهاني بقوة الشخصية، وعبقرية نادرة، ومؤهلات قيادية عالية، وكان كما وصفه معاصره السيد محسن الأمين((رجلاً كبير العقل، واسع العلم والفقه، بعيد النظر دقيقه، صائب الرأي، عميق الفكر، حسن التدبير، واسع التفكير، عارفاً بمواقع الأمور، جاهداً في إصلاح المجتمع - لو استطاع - شفيقاً على عموم الناس، عالي الهمة، سخي النفس، جليل المقدرة، عظيم السياسة؛ مضافاً إلى مكانته العلمية في الفقه والاجتهاد، وإن ما حازه من الرياسة العامة كان عن جدارة واستحقاق)) [3] 

       ويكفي للباحث أن يلقي نظرة فاحصة على سيرته الذاتية، ومسيرته الحياتية، ليكتشف أبعاد هذه الشخصية العظيمة، وقدراتها الكبيرة، و مؤهلاتها المتميزة في عدة جوانب مهمة كالاجتهاد في الفقه وأصوله، والقدرة على إدارة المجتمع، وقيادة الأمة، والتأثير على مسار الأحداث السياسية، والتركيز على قيم العلم والعقل والفكر والتعاون... وغيرها من القيم الإسلامية الأصيلة.

       وكل بعد من أبعاد شخصية السيد أبو الحسن الأصفهاني بحاجة إلى دراسة وبحث، لذلك رأيت من الأفضل أن أركز على بعد واحد ومهم من أبعاد شخصيته المباركة، ومسيرته العلمية الرائدة، وهو بعد مهم جداً في حياة كل الأجيال، ومسيرة الأمم والمجتمعات، وهو العمل على تعزيز قيمة العلم واحترام كافة العلماء، لأن ذلك يؤدي إلى النهوض الحضاري بالأمة، ويرفع من مكانتها العلمية، ويدفع إلى مضاعفة إنجازاتها في شتي حقول المعارف والعلوم المختلفة.

        فقد ترك السيد الأصفهاني ( قدس سره ) بصمات واضحة وقوية ومؤثرة في تعزيز قيمة العلم ومكانة العلماء، وهذا ما سأتناوله في هذه الدراسة المختصرة بشيء من التفصيل والتوسع، ثم نختم هذه الدراسة بمجموعة من الاستنتاجات والملاحظات والتوصيات المستوحاة من السيرة الشريفة لهذا العالم المشهور بعلمه وعمله، وإخلاصه وتقواه.

        العلم والعلماء

 كل مرجع من المراجع الكبار يترك بصماته الواضحة والمؤثرة على عموم أتباعه ومقلديه، بل وعموم المسلمين، لكن المرجع الذي تجمع عليه الأمة في التقليد كما هو حال المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني بعد وفاة النائيني يتضاعف تأثيره في كل شيء، ويصبح القائد الحقيقي لقلوب الناس وعقولهم، لذلك فإن الأبعاد المتعددة لشخصية المرجع تنعكس بصورة إيجابية على الأمة جميعاً، وخصوصاً إذا كانت الأرضية  صالحة لنمو التوجيه والإرشاد المرجعي، ولأن شخصية السيد الأصفهاني لم تكن شخصية عادية، بل تتميز بشخصية قوية ومؤثرة وفذة، فقد ترك كل قول أو فعل مارسه أثره ألفاعل في حياة الناس .

كل مرجع من المراجع الكبار يترك بصماته الواضحة والمؤثرة على عموم أتباعه ومقلديه، بل وعموم المسلمين، لكن المرجع الذي تجمع عليه الأمة في التقليد كما هو حال المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني بعد وفاة النائيني يتضاعف تأثيره في كل شيء، ويصبح القائد الحقيقي لقلوب الناس وعقولهم، لذلك فإن الأبعاد المتعددة لشخصية المرجع تنعكس بصورة إيجابية على الأمة جميعاً، وخصوصاً إذا كانت الأرضية صالحة لنمو التوجيه والإرشاد المرجعي، ولأن شخصية السيد الأصفهاني لم تكن شخصية عادية، بل تتميز بشخصية قوية ومؤثرة وفذة، فقد ترك كل قول أو فعل مارسه أثره ألفاعل في حياة الناس .

       ولأنه لا يمكن لأي أمة أن تنهض حضارياً، أو تتقدم معرفياً، أو تنافس المجتمعات المتقدمة إلا بالعلم والعلماء، فقد ركز الإمام الأصفهاني (قدس سره) على تعزيز قيمة العلم عند الناس، وضرورة احترام وتقدير العلماء كجزء من تعزيز قيمة العلم.
     
       ولنستعرض بعضاً مما قام به السيد الأصفهاني في هذا الجانب المهم من مسيرته العلمية والعملية في النقاط التالية:

       أولاً: تعزيز قيمة العلم ونشره:

       يعتبر تعزيز قيمة العلم ونشره بين الناس من أفضل الأعمال وأكثرها أهمية وفائدة؛ لأنه بالعلم نعمر الدنيا، وبالعلم أيضا تعمر الآخرة، ولذلك لم يوصِ الإسلام بشيء كما أوصى بالعلم، ففي القرآن الكريم عشرات الآيات الشريفة التي تحث على طلب العلم واكتسابه، كما أشاد بالعلم والعلماء كما في قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [4]   وقوله تعالى: ﴿  قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [5]  . أما ما ورد من روايات وأحاديث حول فضل العلم ومكانته وأهميته وثوابه فهي من الكثرة بحيث يصعب تعدادها، ونكتفي بقول الرسول الأعظم : (( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة )) [6]    وقوله : (( طلب العلم أفضل من العبادة )) [7]    وقوله : (( اطلبوا العلم ولو بالصين )) [8]    وغيرها من الأحاديث الحاثة على طلب العلم واكتسابه.

       ويبدو أهمية تعزيز قيمة العلم أكثر عندما يكون أغلب الناس أميين، والجهل منتشر بينهم، وحينما تسلم السيد أبو الحسن الأصفهاني مقاليد المرجعية العليا في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي، رأي الجهل سائداً بين الناس، وأغلبهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ولا توجد مدارس إلا ما ندر، والحاجة ماسة جداً لتعليم الناس القراءة والكتابة، ونشر العلم بينهم، ومحاربة الجهل.

       ومن أجل تحقيق تلك الأهداف الكبيرة قام السيد أبو الحسن الأصفهاني بمجموعة من الخطوات العملية لتعزيز قيمة العلم في المجتمع، ونشره على أوسع نطاق اجتماعي، وكان من أبرزها الأمور التالية:

       1- تأسيس المدارس و الحوزات العلمية:

       إن تأسيس أي مدرسة نظامية أو حوزة علمية أو مكتبة للمطالعة تعد من الوسائل المهمة للارتقاء بالمستوى العلمي لدى الناس، وانتشالهم من مستنقع الجهل والتخلف إلى رحاب العلم والوعي والتقدم.

       وقد كان ديدن المراجع والعلماء طوال التاريخ هو نشر العلم بمختلف الوسائل والأساليب الممكنة، والارتقاء بمستوى المجتمع نحو الأفضل والأحسن، يقول السيد موسى الصدر : ( إن المرحوم شرف الدين بعد أن ألف كل تلك الكتب القيمة في تعريف الشيعة وأهل البيت، التفت إلى حال الشيعة في لبنان، فرأى أنهم من أفقر الناس، ومن أجهلهم، وأحطهم شأناً، ليس فيهم طبيب أو مهندس، وإذا وجد فبأعداد ضئيلة، بل أكثرهم من الحمالين والعمال والكناسين، فقال في نفسه، إذا كان هذه هي حالنا فما فائدة كتبي؟ سيقول الناس لو كان التشيع حسناً ومنجياً، لكان للشيعة حال أفضل، وكان هذا سبب انصرافه إلى النشاطات العلمية فعمد إلى تأسيس المدارس، ومعاهد التعليم، والجمعيات الخيرية، حتى استطاع أخيراً إيجاد نهضة وحركة مقدسة رفعت المجتمع الشيعي في لبنان إلى حال أفضل )) [9]  

       وكذلك كان السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره)، فعندما رأى الجهل هو السائد بين الناس، والأمية متفشية في كل مكان، عمل على بناء المساجد والحسينيات ، وتأسيس المكتبات والمدارس والحوزات العلمية في كل مكان. (( فقد أولى السيد الأصفهاني اهتماماً خاصاً لبناء المساجد والحسينيات والمكتبات في جميع أرجاء العالم الإسلامي من أمريكا إلى أقصى الهند، وكان يبني في كان مكان مسجداً، وحسينية، و مكتبة، ومدرسة، ويجعل له هناك وكيلاً عاماً مهما كانت الظروف صعبة)) [10]  

       وعندما رأى السيد الأصفهاني النقص البين في المؤسسات الإسلامية، بدأ بتأسيس المدارس الإسلامية الأهلية الحديثة كمدرسة الإمام الجواد في بغداد والكاظمية ومدارس منتدى النشر في النجف الأشرف، وبعض المدارس الأخرى في البصرة وكربلاء وغيرها من المدن العراقية. كما قوى حوزة النجف ذاتها، وأكثر من بناء المدارس وإعداد الخطباء والعلماء، وأخذ يبني المساجد والحسينيات في كافة انحاء العراق.

       وقد كان السيد ( قدس سره) يتوخى في مؤسساته أن تكون عصرية مواكبة لروح التطور والنهضة العلمية التي تغزو العالم، وكان يحرص على أن يكون المسلمون عصريين؛ ليس في الدين ولكن في الوسائل، حتى لا يغلبهم الغربيون، ولهذا فقد أسس في تلك الأيام جملة مؤسسات في النجف الأشرف وفي غيرها كانت تجمع بين التراث والتجديد، وبين القديم والحديث، وبين الأصالة والمعاصرة.

       ومن جملة نشاطاته تلك. كان تأسيس منتدى النشر والذي قامت على أساسه فيما بعد كلية الفقه الموجودة حتى الآن.

       وبدعم كبير من السيد (قدس سره) وبإدارة الشيخ محمد رضا المظفر، تقدم في الرابع من شوال عام 1353هـ الموافق10/1/1935م، ثلة من طلبة العلوم الدينية الشباب ومن ضمنهم الشيخ المظفر ببيان إلى وزارة الداخلية يطلبون فيه تأسيس جمعية دينية بالنجف الاشرف باسم (( منتدى النشر)) مصحوباً بالنظام الأساسي، وبعد اللتيا والتي أجازت الوزارة فتح المنتدى.   
     
      و قد تمكن الشيخ المظفر بعد ذلك وبعد محاولات عديدة وتجارب طويلة من تأسيس( كلية الفقه) في النجف الأشرف واعترفت بها وزارة المعارف العراقية سنة 1377هـ.

       ومنتدى النشر كانت عبارة عن مدرسة تخلط بين العلوم القديمة والحديثة، وقد احتضن جماعة كبيرة من الطلبة. [11]  
       وهكذا قام السيد أبو الحسن الأصفهاني بدور مهم وحيوي في نشر العلم وتعزيزه في العراق وغيره من البلدان، وقد تخرج من تلك المدارس والحوزات العلمية الآلاف من محبي العلم والمعرفة.

       2- إرسال المبلغين والمرشدين:

       كانت الساحة الإسلامية في العراق تعاني من قلة الكوادر، وانتشار الجهل بين الناس، إذ لم يكن العلماء يسدون حاجة المدن الثلاث المقدسة التي كانوا فيها، وكانت معظم المدن والقرى و الأرياف الشيعية الأخرى تشكو من غياب العلماء وافتقادهم، ولم يكونوا يعرفون ألف باء الإسلام، أو الأحكام الأولية منه، ماعدا بعض القصص التاريخية المتعلقة ببطولة الإمام علي بن أبي طالب والإمام الحسين الشهيد فحسب.
       وقد سبب هذا الفراغ الديني وقلة العلماء إلى أن تفقد الجماهير الشيعية صلتها الوثيقة بالمرجع وتوثق علاقتها في المقابل (( برئيس العشيرة )) أو شيخ القبيلة، وبالتالي تخضع لعلاقاته واتجاهاته السياسية.

       وقد أدرك السيد أبو الحسن الأصفهاني هذه الحقيقة المؤلمة، ولما عاد من إيران توصل إلى قناعة ثابتة بعمالة النظام، وبضعف القاعدة الدينية فاجتنب الخوض في الألاعيب السياسية اليومية، وراح يعمل بجد وقوة على إرسال العلماء والمشايخ إلى القرى والأرياف وخصوصاً إلى القرى النائية يعرفها الإسلام. [12] 

       ولما ظهر أن في كركوك ونواحيها عدد كثير يبلغ الألوف من المنتمين إلى ولاء أهل البيت وذلك بعد تقلص حكم العثمانيين عن تلك الديار، وقد استولى عليهم الجهل وانتشر فيهم التصوف غير المحمود والغلو، وجهلوا أحكام الدين الإسلامي وأعماله، أرسل إليهم الدعاة والمرشدين، وعين لهم المشاهرات الوافية فكان يصل إلى بعضهم خمسمائة روبية في الشهر عدا ما يرسل إليه من الخلع والعباءات الفاخرة ليهدوها إلى الرؤساء استمالة لهم. وألف لهم رسالة في أحكام العبادات بالتركية الشائعة بينهم وطبعها ووزعها عليهم. وبنى لهم المساجد والحسينيات. [13] 

       وبذلك استطاع السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) أن يقوم بدور مهم في نشر العلم، وتعريف الناس بالدين وأحكامه، ومحاربة الجهل والتخلف، فقد كان الخطباء والمرشدون والمبلغون، من أهم الوسائل في ذلك العصر – ولا يزال – في نشر أحكام الإسلام ومفاهيمه وقيمه بين الناس، ومحاربة الأمية والجهل الذي هو أصل التخلف والتقهقر الحضاري .

       3- نشر الوكلاء في كل البلدان :

              يعتبر جهاز الوكلاء من أهم المؤسسات التي تقوم عليها مؤسسة المرجعية الدينية، فلكل مرجع من المراجع الكبار آلاف الوكلاء المنتشرون في كل أنحاء العالم. ولكن قد تختلف إدارة الوكلاء من مرجع إلى آخر، وعندما يكون المرجع يتمتع بقدرة إدارية -بالإضافة إلى أعلميته- يستطيع أن ينجز الكثير من الأعمال، ويحقق الكثير من الأهداف الكبيرة.

يعتبر جهاز الوكلاء من أهم المؤسسات التي تقوم عليها مؤسسة المرجعية الدينية، فلكل مرجع من المراجع الكبار آلاف الوكلاء المنتشرون في كل أنحاء العالم. ولكن قد تختلف إدارة الوكلاء من مرجع إلى آخر، وعندما يكون المرجع يتمتع بقدرة إدارية -بالإضافة إلى أعلميته- يستطيع أن ينجز الكثير من الأعمال، ويحقق الكثير من الأهداف الكبيرة.

       وقد كان يتمتع السيد أبو الحسن الأصفهاني بمؤهلات قيادية وإدارية، وهو ما انعكس على جهاز الوكلاء لديه.

       وقد أشار لهذه الحقيقة معاصره السيد محسن الأمين (قدس سره)، إذ عندما سُئل عن سبب اختياره للسيد أبو الحسن مع العلم بوجود علماء آخرين وكبار . فقال: في الحقيقة إنني رأيتهم جميعاّ علماء عدولاً، لكن رأيت في السيد أبو الحسن شيئاّ آخر وهو حُسن الإدارة مما دفعني إلى اعتباره لائقاّ لإدارة شؤون المسلمين. [14]  

      ولأن الوكيل يمثل المرجع في كل شيء، لذلك تتأكد ضرورة الاختيار الجيد والمناسب لهؤلاء الوكلاء وفق معايير دقيقة ومناسبة، ودون ترك الأمر بصورة عفوية أو جعل الاختيار عشوائياً. وهذا ما كان يحرص عليه السيد أبو الحسن (قدس سره) فقد كان يحسن اختيار وكلائه ولا يتسرع بل يتورع في تعيين من يعين للناس، ولا يقوم بعملية الاختيار إلا بعد أن يختبر الشخص المرشح للوكالة، ويقيس فيه دينه وعلمه وهداه وتقواه وعقله وغير ذلك مما يناسب البلد الذي يراد أن يرسل إليه. وقلما كان السيد (قدس سره) يرجع عن وكيل. وذلك آية في جودة اختياره في أول الأمر وحسن معرفته للناس وللبلاد وللأمور.

       وقد وصل عدد وكلاء السيد( قدس سره) الذي يعتمد عليهم من غير تلاميذه إلى زهاء أربعة آلاف وكيل في شتى أصقاع الأرض. وهذا يكشف قوة السيد وانتشاره الواسع وقدرته على إيصال صوته وإرشاداته إلى أماكن كثيرة من الوطن الإسلامي. [15] 

       فقوة أي مرجع من ناحية الانتشار، وامتلاك مفاتيح الأمور، تعتمد على قوة وكلائه، ونفوذ شخصياتهم في مجتمعاتهم، وسماع كلمتهم لدى الناس.
       والوكلاء يقومون بمهام عديدة، منها: استلام الحقوق الشرعية، وبناء المؤسسات المختلفة، وتعليم الناس عبر إقامة الدروس الدينية في المساجد والحسينيات والمنازل و.... وغيرها، وهذا الدور من أهم الأدوار التي ينبغي للوكلاء القيام بها.

       وقد كان السيد أبو الحسن الأصفهاني يحث وكلاءه على تعليم الناس مفاهيم الإسلام وأحكامه، ونشر العلم بينهم، والقضاء على الجهل والأمية.

       4- الإجابة على تساؤلات الناس:

       من الأمور المتبعة لمعرفة الأحكام الشرعية، وفهم معاني ومفاهيم الإسلام، هو الاستفتاء والاستفسار والتساؤل من المرجع كي يجيب على ما لدى الناس من تساؤلات في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية.

       و يعمد الكثير من مراجعنا العظام إلى تشكيل لجنة للإجابة على تساؤلات الناس؛ إلا أن ما ينقل عن أحوال السيد أبو الحسن الأصفهاني أنه كان يرفض أن يجيب أحد عنه، وكان بنفسه يجيب على تساؤلات الناس الكثيرة.

      و (( فضلاً عن قيامه بالتدريس والبحث اليومي وحضوره صلاة الجماعة في أوقاتها و الفسح في المجال لزائريه بزيارته ومقابلته في مختلف الأوقات فإنه مكلف بقراءة البريد في كل يوم والإجابة على الفتاوى والرسائل بقلمه دون أن يساعده أحد في ذلك، وكم ستكون دهشة القارئ عظيمة إذا علم بأن نصف ما يستورد بريد النجف – والرسل الآخرون إن لم يكن أكثر – من الرسائل اليومية إنما هو معنون باسمه، ونصف ما يستصدر البريد ورسله الخاصة، إنما يستصدره من مكتبه وبقلمه، والرد على أغلب هذه الرسائل لا يخلو من تعب وكلفة ومشقة. فالكثير من هذه الرسائل يتضمن فتاوى ليس من السهل الإجابة عليها قبل تأمل طويل لعدم حصول نظائرها من قبل أو تداخل مشاكلها بعضها في بعض)). [16] 

       وللأسف الشديد، فقد كان يصل إلى السيد الكثير من الرسائل، التي تكيل له السباب والشتائم محاولة لتثبيطه أو إسقاطه نفسياً، وهنا كان يبرز في السيد (قدس سره) خلق الأنبياء، فكان يقابل هذه الإساءة بالحسنة، فمما ينقل عنه (قدس سره) أنه كان يقرأ الرسائل التي تصله جميعاً بنفسه لا بواسطة أحد إطلاقاً، وكان يضع أمامه في الغرفة وهو يقرأ الرسائل، إناء كبيراً مليئاً بالماء، فإذا رأى في الرسالة الشتم والسب والإهانة أخذها ووضعها في إناء الماء  ليمحو آثارها وحتى لا يطلع عليها أحد، وأحياناّ كان يجمع هذه الرسائل وفي طريق ذهابه إلى الكوفة كان يرميها في نهر الفرات أو ((نهر الكوفة)) وهو يريد أن يدفن سر الناس وأن ينهي المشكلة بالتي هي أحسن !! [17] 

       فالسيد أبو الحسن الأصفهاني كان همه هو نشر العلم، وتعليم الناس أحكام الدين ومفاهيمه، ودفن الجهل بمختلف أشكاله، بما فيه رسائل السباب والشتائم التي كانت ترسل إليه، فهذه الرسائل تعبر عن جهل مركب، وما يهم المراجع والعلماء الكبار هو نشر العلم، ومحاربة الجهل مهما كان شكله ونوعه.

       5- دفع الأموال من أجل نشر العلم:

       نشر العلم وتعزيز قيمته، و الارتقاء العلمي بالمجتمع كان الشغل الشاغل للمرجع الأعلى في زمانه، السيد أبو الحسن الأصفهاني، وكان لتحقيق ذلك يدفع الأموال الكبيرة، من أجل المساهمة في تحقيق النهوض العلمي.

       وقد ((كان السيد( قدس سره ) يزود بعض المجلات والمطابع في النجف الأشرف بالمال حتى تنمو النجف علمياً، بالإضافة إلى نموها حسب الحضارة الحديثة)) . [18] 

       وينقل عن السيد الأصفهاني أنه قام بإرسال ممثل عنه لغرض التبليغ في إحدى قرى شمال العراق، وعندما وصل هذا المندوب إلى تلك القرية، اعترضه رئيس القبيلة ومنعه من أداء وظيفته، مما اضطر المبلغ إلى الذهاب إلى مركز الشرطة القريب من تلك القرية، لحل هذه المشكلة.

       فقال له مدير المركز: إن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو أن تعود إلى النجف الأشرف وتبلغ آية الله الأصفهاني أن يتصل بوزير الداخلية، لكي يعطينا الوزير بدوره الأوامر للوقوف بوجه رئيس القبيلة، فعاد ممثل السيد أبي الحسن إلى النجف الأشرف وأبلغه بما جرى.

        فقال له السيد، لا بأس سأكتب رسالة إلى رئيس القبيلة مع مبلغ خمسمائة دينار.

فأخذ ممثل السيد الرسالة مع المبلغ وذهب بها إلى شيخ العشيرة، فلما استلمها وفتحها ووجد فيها المبلغ المذكور دخل السرور والفرح على قلبه وصافح حامل الرسالة ورحب به أشد الترحيب، وأشار لأفراده بحضور مجلسه والصلاة خلفه.

       ومنذ هذه الحادثة أصبحت هذه العشيرة ورئيسها من أنصار السيد ومحبيه، ثم بعد ذلك عاد المندوب إلى النجف الأشرف ونقل للسيد النتائج الإيجابية التي ترتبت على أثر الرسالة. فقال السيد أبو الحسن: هذه الطريقة أفضل من أن نتصل بوزير الداخلية لحل المشكلة، ولعل اتصالنا به يخلق لنا مشاكل نحن في غنى عنها [19]  

       وهدف السيد الأصفهاني بالطبع لم يكن استمالة هؤلاء الناس فقط، وإنما السماح لمبلغيه أن يقوموا بدور التبليغ ونشر العلم بين الناس وإن تطلب ذلك دفع الأموال، إذ أن الأموال يجب أن توظف في نشر العلم والفضيلة والخير. ولهذا الهدف أيضاً كان السيد الأصفهاني يرسل العباءات الفاخرة لوكلائه كي يهدوها إلى الرؤساء استمالة لهم، بما يسمح بممارسة أدوارهم وأعمالهم بكل حرية وترحاب.

ثانياً: تقدير العلماء والاحتفاء بهم

       إن تكريم العلماء واحترامهم، والاحتفاء بجهودهم،إنما هو تكريم للعلم نفسه وتعزيز لقيمته ودوره في المجتمع، وإذا كان من الطبيعي لأي مرجع القيام بهذا الدور، إلا أن هذا الدور يكون أكثر من مهم إذا كان العلماء يواجهون صعوبات ومشاكل من قبل قوة مسيطرة على مقاليد الأمور.

       ففي عهد السيد أبو الحسن الأصفهاني كان العراق محتلاً من قبل الاستعمار البريطاني، وقد سعى بكل مكر وخداع أن يضعف الدور التاريخي للعلماء، ويقلل من ثقة الناس بهم، ويعمل على إبعادهم عن الارتباط العاطفي والوحداني بالعلماء. من هنا، فإن السيد أبو الحسن الأصفهاني (رضوان الله عليه) قد عمل كل ما بوسعه من أجل استعادة ثقة الناس بالعلماء، والعمل على تعزيز مكانتهم بين الجماهير، وقد قام السيد أبو الحسن الأصفهاني بمجموعة من الخطوات الإيجابية والمؤثرة في هذا المجال ... نذكر أهمها في النقاط التالية:

       1- تربية العلماء:

       حاول أعداء الدين في كل من إيران والعراق وأفغانستان وتركيا وغيرها من بلاد المسلمين صناعة علماء وشخصيات مرتبطة مباشرة بالاستعمار وأذنابه، وكان العلماء الربانيون يتعرضون لأعنف معاملة، ومضايقات في كل شيء كي يتخلوا عن زيهم الديني.

       فبعد أن وصل رضا خان إلى الحكم في إيران أصدر في سنة 1929م قانون اللباس الموحد الشكل بحيث فرض على الرجال ارتداء القبعة على الرأس والسروال (البنطلون) والسترة (الجاكيت) على الطراز الأوروبي، كما وحد زي رجال الدين، ومنعهم من ارتدائه إلا بإذن خاص.

       وخلال خمس عشرة سنة من حكمه اضطر مئة ألف من رجال الدين إلى ترك الزي الديني، وعامل رجال الدين بقسوة بالغة.

       وينقل أحد العلماء مثالاً لتقليص عدد العلماء في إيران، فيقول إنني ذهبت إلى إيران في زمن رضا خان لزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) فذهبت إلى مشهد وفي كل طريقي ذهاباً وإياباً لم أًرً إلا معممين فقط أحدهما رأيته في طهران والآخر في خراسان!! [20]  

       والهجمة على العلماء، كان موجوداً كذلك في أفغانستان وتركيا، وإلى حد أقل في العراق. وأمام كل ذلك، كان السيد واعياً لمؤامرات الاستعمار، ولما كان يمثل المرجعية العليا لذلك فقد كانت المسؤولية العظمى لردع هذه المؤامرات تقع على عاتقه. من هنا فقد اخذ السيد بمحاربة كل من هؤلاء حرباً ثقافية، أي أنه قاد ((ثورة ثقافية)) في البلاد الإسلامية التي كان له فيها نفوذ. وقد تركزت منجزات السيد في العراق وإيران وأفغانستان، أما في  تركيا حيث لم تكن هناك يد للمرجعية فإنه لم يوفق لعمل شيء، لذلك فتركيا ظلت حتى اليوم تعيش غربة حقيقية عن الإسلام. ولا زال اعتمار العمائم ممنوعاً. فالحال لم يتغير عما كان عليه في عهد أتاتورك.

       من هنا، أخذ السيد أبو الحسن يركز جهوده على تربية العلماء والخطباء والمبلغين والمرشدين والمدرسين والمؤلفين ويجمع كلمتهم. وبينما كانت العمائم محرمة في إيران وأفغانستان وتركيا ونوعاً ما في العراق أيضاً، أكثر السيد من نشر اعتمارها وكان كالأب الرؤوف بالنسبة لطلبة العلوم الدينية، يربيهم ويدير أمورهم، ويوجههم، ويرشدهم، ويحترمهم، ويوجب احترام الناس لهم. [21] 

       ومن هنا، ندرك عظمة الدور القيادي الذي قام به السيد الأصفهاني في تربية العلماء والخطباء، وتكثير أعدادهم، والعمل على دعمهم، ليبقوا الحصن الحصين للدفاع عن الإسلام ومقدساته، وأحكامه وفلسفته الشاملة للحياة.

       2- إعادة الهيبة للعلماء:

       عمل الاستعمار البريطاني، وكذلك أتباعه على التقليل من مكانة وهيبة العلماء، بهدف سلب أي تأثير لهم على الناس، ومن ثم يستطيعون السيطرة على العراق وإيران وغيرها من بلاد المسلمين.

       وقد أدرك السيد الأصفهاني ذلك فعمل بكل جد واجتهاد من أجل إرجاع مكانة العلماء إلى وضعها الطبيعي، وإضفاء الهيبة عليهم كي يتمكنوا من التأثير المعنوي على الناس.

       وقد تمكن –السيد الأصفهاني- من إزالة النظرة السلبية التي علقت بأذهان الناس تجاه رجال الدين والعلماء، وكان من أسالبيه (قدس سره) في ذلك : إنه كان يعطي المال لأساتيذ الحوزة في النجف الأشرف ويوصيهم بألا يقولوا بأن المال منه، وإنما يوحون للناس بأنهم هم الذين يأخذون الأموال من الحقوق الشرعية ويوزعون هذه الأموال على تلاميذهم كما هي العادة الجارية في الحوزات العلمية. وكان السيد بذلك يريد أن يوحي للناس بأن العلماء أقوياء ومقتدرون، فكان من يأتي من البلاد الإسلامية إلى النجف الأشرف فيرى هناك حوزة ضخمة ورجال دين يدرسون جماعات من الطلبة (500 أو 1000 طالب أو أقل أو أكثر )، ويقتنع بأن دور رجال الدين لم ينته كما يحاول المستعمر الإيحاء بذلك.

       وفي إيران وعندما طرد رضا خان من الحكم، أرسل السيد أبو الحسن الأصفهاني جماعة من رجال الدين وأعطى كل واحد منهم كمية من المال وقال لهم : إن شأنكم فقط هو أن تمشوا في شوارع طهران جيئة وذهاباً من الصباح إلى المساء. وليس أكثر من هذا حتى يطمئن الناس أن الدين قد رجع إلى البلاد، وهكذا وبعد فترة وجيزة تمكن (قدس سره) بحنكته وذكائه من آن يعيد هيبة وسمعة العلماء في إيران [22]  

       بيد أن العلماء عندما يفقدون هيبتهم ومكانتهم بين الناس يفقدون أي قدرة على التأثير عليهم، أو توجيههم، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى الانسلاخ من القيم والمبادئ الدينية، وهو الأمر الذي يسعى عليه في كل وقت أعداء الدين، فيعملون على محاربة العلماء، وإسقاط هيبتهم ومكانتهم بكل الأساليب والحيل والألاعيب الماكرة.

       3- احترام العلماء:

       من الخطوات و الأمور التي كان يتبعها السيد أبو الحسن الأصفهاني لتعزيز مكانة العلماء في المجتمع، هو احترامه وتقديره لكل العلماء وطلبة العلم، لأن ذلك يعني تعزيز قيمة العلم، ورفعة شأن العلماء مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [23] .

       والقصص التي تؤكد احترام السيد الأصفهاني لطلبة العلم فضلاً عن العلماء كثيرة، نذكر منها بعض القصص: إذ ينقل أحد تجار أصفهان ولقبه (كوفائي)  كان وكيلاّ عاماّ للسيد في أصفهان وكان يقول: ذات مرة أخذت عباءة من أجمل العباءات الشتوية من وبر الإبل، وفي ذلك اليوم كانت العباءة العادية بقيمة (7) توامين. وهذه العباءة كانت تثمن بـ (100) تومان. أي أكثر من (13) ضعفاّ وذهبت بها إلى النجف الأشرف وقدمتها للسيد في مجلسه فأخذها السيد وشكرني. وجعل العباءة أمامه. في هذه الأثناء دخل أحد الطلبة وعباءته ممزقة فنظر إليّ السيد وقال: هل هذه العباءة لي. قلت: نعم يا سيدنا. قال: لا بأس ففتحها ولبسها في لحظات ثم نظر إلى ذلك الطالب وقال له ما حاجتك؟ قال: إن عباءتي ممزقة وأخجل أن أمشي بها في الشارع. فبادر السيد إلى عباءته التي أهديت له حالاً.. وقال للطالب أعطني عباءتك فأخذها ووضع العباءة الفاخرة على كتف ذلك الطالب! ويضيف التاجر: قلت للسيد يا سيدنا هذا الطالب لا يحتاج إلى عباءة مثل هذه. وهذه العباءة هي لك. فقال السيد: لا يخصك ذلك فأنت وهبت العباءة لي وأنا حر في التصرف بها. وقد لبستها حتى أصبحت ملكي.

       وهكذا كان السيد يضحي بالغالي والنفيس من اجل راحة وسعادة الطلبة، الذين كان يعتبرهم أبناءه المدللين.

       ومما ينقل عن أخلاق السيد أبو الحسن (قدس سره)، أنه كان يولي احتراماً خاصاً لعلماء الدين، ومن قصصه في ذلك ما ينقله أحد علماء النجف الأشرف وهواية الله السيد هادي الشيرازي (من أحفاد المجدد الشيرازي) قال : ذات مرة ذهبت إلى أحد وكلاء السيد أريد منه المال حسب تحويل السيد إليه فأساء إلي ذلك الوكيل. فغضبت كثيراً. وكان الوقت بعد الظهر فذهبت إلى السيد وقلت له: تحولني إلى شخص لا يقدرني ويهينني ولا يحترمني. ونقلت له القصة كاملة. فقال السيد: لا بأس ماذا تريد الآن هل تريد أن تأتي إلي كل شهر وتأخذ مني المال مباشرة. أو تريد أن أحولك إلى وكيل آخر؟ وبذلك يكون السيد قد منع إهانة هذا العالم. [24] 

       وللسيد أيضاً قصة رائعة أخرى تبين حرصه على الدفاع عن حقوق الطلبة والوقوف معهم في الشدائد. فينقل أنه في إحدى المرات أخبر السيد بأن أحد الطلبة في النجف الأشرف سجن بشأن من الشؤون. وكان الوقت عند الظهيرة. وعندما قدموا للسيد غذاءه في ذلك اليوم قال: لا أتغذى ... فسألوه عن السبب. قال : لأن هذا الطالب مسجون، ومن غير الصحيح أن آكل وهناك طالب علوم دينية مسجون فأصروا عليه.. وقالوا له: إن الوقت ظهيرة الآن والدوائر مغلقة، ولا يمكن الآن أن نعمل شيئاً. وهذا قانون و الخ.. ولكن السيد أصر على موقفه حتى يؤتي بالطالب ويأكل معه.

       وبعد ذلك تدخل ابن السيد وهو السيد حسين فاتصل بقائم مقامية النجف، فاتصلوا بالمتصرفية في كربلاء. وتمكنوا بعد مشقة من إخراج ذلك الطالب من السجن. وجاء إلى بيت السيد أبو الحسن وتغذى معه عصراً . لان الساعات طالت حتى تمكنوا من حل القضية.

       وهذا موقف آخر من السيد أبو الحسن(قدس سره) يريد به أن يبرز تقدير واحترام الطلبة، وقد كان يريد أن يؤكد ليس فقط على الناس بل على الحكومة أيضاّ بأن تحترم الطلبة ولا تتعرض لهم بسوء. وهو موقف يكشف أيضاً عن قوة شخصية السيد والرهبة منه. [25] 

       ويذكر السيد محسن الأمين في أعيانه كيف احترمه السيد الأصفهاني وقدره، واحتفى به أيما احتفاء، عندما قام الأمين بزيارة العتبات المقدسة في العراق وإيران عام 1352هـ - 1353 هـ، يقول السيد الأمين: فقد أوفد وفداً من قبله لاستقبالنا في كربلاء وآخر لاستقبالنا في خان الحماد، وخرج لملاقاتنا في جمع غفير من العلماء والفضلاء والوجهاء وغيرهم حين دخولنا النجف، وأنزلنا في داره ليلة وصولنا للنجف ثم كرر الزيارة لنا بعد وصولنا للنجف في أغلب الأيام، كما كرر الزيارة لنا بمنزلنا بالكوفة.

        ولما عزمنا على التوجه لزيارة الرضا ( عليه السلام) حضر إلى منزلنا وطلب إخلاء المجلس ثم قال: أتريد السفر إلى إيران؟

         قلت:نعم. فقال: يلزم أن تستعد للباس يقي البرد لأن إيران باردة وكثيرة الثلج وكان ذلك في أوائل نيسان. ثم قال: وأين تريد أن تنزل في طهران؟

       قلت: أنا رجل درويش لا أبالي أين أنزل.

        قال: هذا لا يمكن إن إيران ليست جبل عامل فلا بد من نزولك في منزل معروف. قلت: إن رجلاً ممن ينتسب إلى العلم من أهل طهران كان في النجف وعرض عليّ النزول في داره وأجبته.

        قال: هذا لا يصلح أن تنزل في داره.

        قلت: قد وعدته بذلك ويصعب عليّ خلف الوعد.

        قال: المحافظة على مكانة العلم أهم من خلف الوعد؛ فاختر غيره من أهل المكانة في العلم لأكتب له بذلك.

        قلت: أنا لا أعرف أحداً هناك وإنما أسمع بالشيخ إسحاق الرشتي والسيد محمد البهبهاني.

        قال: اختر أحدهما لأكتب له فاخترنا الرشتي

        ثم قال إذا لزمك أمر في كرمانشاه فراجع فلاناً وإذا لزمك أمر في طهران فراجع فلاناً وإذا لزمك أمر في خراسان فراجع فلاناً. ثم طلب دفتراً فكتب أسماءهم فيه بخط يده فشكرته على ذلك وانصرف. ولكني لم احتج والحمد لله إلى مراجعة أحد من هؤلاء إلا الخراساني فراجعته في بعض الأمور.

        وبعد سفرنا إلى إيران كان يستخبر عن أحوالنا في كل بلدة نصلها وعن جزئيات أمورنا وكلياتها في جميع مدن إيران وبلدانها وتأتيه أخبارنا في كل يوم وكل مكان. ولما رجعنا من إيران إلى العراق بعد ما أقمنا في إيران نحو خمسة أشهر ونصف شهر التقينا به في كربلاء فأول ما رأيناه قال أتريد أن نكلمك بالفارسي أو بالعربي؟

       قلت: بما شئت.

       فقال: لا تذكر لي شيئاً مما جرى لك في إيران، كله عندي علمه، وأخبارك كانت تأتيني يوماً فيوم وساعة فساعة. [26] 

       هذه القصص وغيرها إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى حرص السيد الأصفهاني على استعادة مكانة العلماء، وتعزيز قيمة العلم، ورفع شأن طلبة العلوم الدينية، بما يقوي من مكانتهم الاجتماعية، وينمي من نفوذهم عند الناس، وهو الأمر الذي يخدم الإسلام ومفاهيمه وقيمه ومثله العليا.

       4- المحافظة على سمعة الوكلاء:

       يقوم الوكلاء بدون مهم في إدارة شؤون المرجعية في أماكن تواجدهم، فهم كالسفراء يمثلون المرجع الذي وكلهم، وهم يزدادون مكانة بين الناس كلما كانت الوكالة التي بأيديهم من قبل المرجع الأعلى في زمانه، و الوكلاء وإن كان يجب أن يتحلوا بالتقوى والورع والزهد وخدمة الدين ومساعدة المؤمنين إلا أنهم ليسوا معصومين، وقد تصدر من بعضهم أخطاء لا ينبغي أن تصدر من مثلهم.

       لكن الحل في نظر السيد أبو الحسن الأصفهاني لمعالجة الأخطاء ليس بسحب الوكالة منهم؛ لأن ذلك يؤدي إلى إسقاطهم اجتماعياً، واغتيالهم معنوياً، وإنما الحل بمعالجة الأخطاء بالحكمة، والحنكة، وهذا ما تحلى به السيد الأصفهاني في تعامله مع أخطاء وكلائه.

       إذ ينقل عن السيد حسن الظاهري هذه القصة فقال: كان السيد إذا أعطى وكالة شرعية لأحد الأشخاص، وتبين بعد فترة من الزمن بأن ذلك الشخص غير جدير بتلك الوكالة، لم يسحب منه تلك الوكالة، وكان كثير من المقربين يقولون له: اسحب منه تلك الوكالة فيرد عليهم السيد قائلاً: قبل ان أمنحه وكالتي، كان هذا الشخص يمتلك منزلة لدى الناس، وعندما منحته الوكالة ازدادت منزلته لديهم، ولكن عندما أبطل وكالته يكون قد فقد كل تلك المنزلة تماماً، وليس لديّ الاستعداد لأن أساهم في إراقة ماء وجه أحد، وفقدانه لاعتباره بين أوساط الناس. [27] 

       وقد ضرب السيد أبو الحسن الأصفهاني(قدس سره) في ذلك مثلاً في حل مشكلة وقعت لوكيل له في مدينة ((الرميثة)) جنوب بغداد.

       فقد تناهى إلى سمع السيد بأن هناك خلافاً حاصلاً حول هذا الشيخ (وكيل السيد) . فما كان من السيد (قدس سره) إلا واغتنم إحدى الفرص عن طريق أحد الشيوخ الذين يعرفهم فطلبه وقال له : أريد أن تدعو جميع شيوخ القبائل في الرميثة لمقابلتي. فطلبهم الشيخ وجاءوا إلى النجف الأشرف وذهبوا لزيارة السيد أبو الحسن وعند الاجتماع بهم سألهم السيد عن رأيهم بوكيله في الرميثة.  فأبدى الجميع رضاهم بالوكيل واستحسنوه جميعاً، إلا ذلك الشيخ (صديق السيد) لم يتكلم بشيء، وعندما انتهى اللقاء أخذ الجميع بالسلام على السيد وتقبيل يده. وعندما سلم الشيخ على السيد قال له : أريد أن أراك لوحدك. فقال حسناً. وعندما تفرقوا رجع هذا الشيخ للسيد وكان ينتظره، فقال له السيد: لماذا لم تقل شيئاً عندما قالوا رأيهم بالوكيل. فقال الشيخ : إن رأيي كان غير ذلك، ولكنني لم أكن أريد أن أخالف الجميع فسكت. فقال له السيد: ما هو رأيك؟ قال: أنا أقول إنه مادام قد اختلف على الوكيل فهو أصبح غير صالح، لأن ذلك يؤدي إلى إثارة بعض المسائل عليكم. فقال له السيد: أحسنت.

       وبعد مرور أيام أو أشهر جاء الوكيل لزيارة النجف الأشرف والتقى بالسيد. فقال له السيد دون أن يعلمه بأي شيء: إننا محتاجون لك هنا لكي تدرس، ولا حاجة لرجوعك للرميثة. ثم أرسل وكيلاً آخر أكثر قدرة على الإدارة والتصرف ليكون بديلاً عن الوكيل السابق. [28] 

       وبهذا حل السيد الأصفهاني مشكلة هذا الوكيل بدون أي إهانة له، وبدون أن يعرف السبب الحقيقي لنقله للنجف الأشرف، ويرسل وكيلاً آخر عنه، وكان بإمكانه أن يسحب منه الوكالة وينتهي الأمر، إلا أنه كان سيسقط ذلك العالم من أعين الناس، وسيؤثر على مكانة العلماء وثقة الناس فيهم، من هنا تدارك السيد أبو الحسن أي تداعبات سلبية، وحل المشكلة بحكمة وحنكة قلّ نظيرها.

       5- إعطاء رواتب شهرية للعلماء والطلبة:

           من الأمور التي تساعد العلماء وطلبة العلوم الدينية على العطاء والإنتاج، والقيام بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم هو توفير ما يحتاجون من متطلبات الحياة المختلفة، وإعطاء رواتب شهرية، وتوفير مساكن للعلماء، وتلبية كل حوائجهم، وقد كان ذلك من الأعمال الجليلة التي قام بها السيد الأصفهاني في سبيل توفير أمر المعاش لهم، ورفع شأنهم، والاستغناء عما في أيدي الناس.

من الأمور التي تساعد العلماء وطلبة العلوم الدينية على العطاء والإنتاج، والقيام بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم هو توفير ما يحتاجون من متطلبات الحياة المختلفة، وإعطاء رواتب شهرية، وتوفير مساكن للعلماء، وتلبية كل حوائجهم، وقد كان ذلك من الأعمال الجليلة التي قام بها السيد الأصفهاني في سبيل توفير أمر المعاش لهم، ورفع شأنهم، والاستغناء عما في أيدي الناس.

      يقول السيد محسن الأمين في أعيانه : (( ومن جليل أعماله  جراية الخبز على الطلبة بالنجف وما يعولون والنفقات المالية، وإرساله المرشدين من أهل العلم إلى الأقطار في إيران و العراق حتى البلاد التي يكون فيها عدد قليل من الشيعة وقيامه بنفقاتهم، و إيصاؤهم أن لا يقبلوا من أحد شيئاً وتفقده أهل البيوتات والمستورين وبره بهم وعنايته بتطبيب المرضى منهم وإرسالهم إلى البلدان التي فيها حذاق الأطباء، وقيامه بنفقاتهم)) [29] .

       وكان يصرف على طلبة العلوم الدينية مبالغ ضخمة، إذ  جبيت إليه الأموال من أقاصي البلاد وأدانيها، ولم يبلغ أحد في عصره ما بلغه من ذلك حتى بلغت نفقاته في كل شهر من عشرين ألف إلى ثلاثين ألف دينار عراقي فينفقها على طلاب العلم والفقراء [30]  

       وكان السيد الأصفهاني (قدس سره) بالإضافة إلى إعطائهم الرواتب، يجري لهم الخبز بما يكفيهم ليومهم، وهو عمل لم يقم به أي مرجع قبله أو بعده. وكان يحرص أشد الحرص على أن يوفر للطلبة كل احتياجاتهم، وأن يوجد الوحدة والتآلف بينهم، وأن يرفع كلمتهم؛ لأن رفع كلمتهم يعني رفع هيبة العلماء ومكانتهم في قلوب الناس.

       وهناك قصة ينقلها الشيخ محمد علي المعروف ( بالمعلم الأفغاني) حيث يقول: إنه جاء في إحدى المرات بخمسة آلاف دينار من الأخماس الشرعية من الأفغان. فقدمها للسيد. فقال السيد: هل لك منزل؟

        قال : لا.

          قال : وهل تكفي هذه الأموال لبناء منزل؟

        قال: نعم.

       قال: إذن خذها وابن ِلك منزلاً. فاستغرب الشيخ.

        فقال السيد: هل هذه الأموال تكفي لكل رواتب الطلبة؟

        قال: لا.

        قال : نصف ؟

            قال : لا .

        قال : ربع ؟

         قال لا.

        قال: إذاً سيعوضني الله بغيرها.

       وقد جرت عادة السيد أن يعطي لكل طالب علوم دينية عنده أسرة وغير متمكن  مسكناً يؤويه. وهذه كانت من أعماله الجليلة.

       وكان السيد يجري من الخبز لكل طالب علوم دينية ما يكفيه هو وعائلته كل يوم، بحيث يعطي كل شخص (أوقية) من الخبز يومياً. أي أربعة أرغفة خبز. فإذا كانت العائلة من ثلاثة تعطى لهم ثلاث أوقيات أي اثنا عشر خبز يومياً. وكان للسيد وكيل قائم على توزيع هذا الخبز.

       وكان السيد (قدس سره) يعطي أموالاً كثيرة للطلبة حتى أنه كان يقترض من أجل قضاء حوائج الطلبة والمحتاجين. [ 31] 

       والتاريخ المرجعي سجل مناهج  وأساليب متنوعة في التعامل مع الأموال  التي ترد على المرجع، وان كانت أبواب الفقه الإسلامي غير خالية من تحديات وأطر في التعامل مع هذه الأموال . ولكن يبقى لاجتهادات الفقيه وأسلوبه العام في الحياة وفي الممارسة القيادية الدور الكبير في رسم السياسة المالية لمؤسسته المرجعية.

       على هذا الأساس كانت السياسة المالية للسيد أبو الحسن الأصفهاني عبارة عن أسلوب خاص لعله يفترق عن أساليب كثير من المراجع سواء في عصره أو فيما بعده وحتى في عصرنا، فكان لا يرى أي فائدة من تكديس الأموال وتجميدها في الصرف، بل كان لا يرتاح حتى يفرق الأموال التي ترده كلها – مع ضخامتها – في وجوهها الشرعية. لذلك كان يتميز بالعطاء الذي لا يعرف الحدود والإنفاق الواسع حتى لو اضطرته ذلك إلى الاستدانة.

       وهذا الأسلوب لم يكن بدعة جاء بها السيد، فقد كان من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)  قد أسس لذلك، حيث كان (عليه السلام) لا ينام حتى يفرق كل ما في بيت المال، ولكن مع ذلك كان هذا الأسلوب الذي اتخذه السيد أبو الحسن محل طعن وتهمة وتشهير، فكان البعض كثيراً ما ينتقد السيد بسبب عطائه اللا محدود، غير أن ذلك لم يكن يوقف السيد (قدس سره) عن أسلوبه في الإدارة المالية.

       وإذا كان هذا أسلوب السيد فإن ذلك يعني أن الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت تعيش نوعاً من الازدهار، فالأموال التي كانت تصل إلى السيد ليست بقليلة.

       فعندما انتهت الرئاسة العامة إلى السيد كان يعني ذلك أن عموم الشيعة بدأت تأخذ بتقليده، وقد قدروا بحوالي ( 100) مليون مقلد له على طول العالم الإسلامي.

       وهذا يعني بالتالي أن ترد على السيد من الحقوق الشرعية المختلفة أموال طائلة، وقد لا يمكن إعطاء رقم دقيق عن حجم ما كان يصله، ولكن قدرت ميزانية السيد السنوية على وجه التقريب بالتراوح بين 500 ألف و 600 ألف دينار . وهذا الرقم يعني يحسابات اليوم مئات الملايين من الدنانير وهو رقم هائل وضخم كما هو واضح.

       أما مجموع ما كان ينفقه شهرياً فكان يتراوح بين الـ 36 والـ 40 ألف دينار، والبلاد التي كانت ترده منها الأموال كثيرة ولكن أشهرها كما ثبتها صاحب كتاب (( الإمام السيد أبو الحسن)) : إيران، الهند، أفغانستان، البحرين، العراق، الكويت، أفريقيا الشرقية، بورما، سوريا، لبنان، وأقطار إسلامية أخرى. [32] 

       و الأرقام كثيرة، ويكفي أن نعلم إن عدد طلبة العلوم الدينية في النجف في ذلك اليوم كان لا يقل عن 20 ألف طالب، وكان السيد قد خصص للقسم الأكبر من هؤلاء رواتب شهرية ليتمكنوا من مواصلة دراستهم. بل و كان يعطي الكثير من الطلبة دوراً للسكن، وكان يدفع إيجارات الكثير منها. هذا بالنسبة للأرقام، أما الإدارة المالية فقد برع بها السيد بشكل كبير. [33] 

       مما تقدم نستنتج أنه في عهد السيد الأصفهاني (قدس سره) كان العلماء والطلبة يعيشون عصراً ذهبياً قلّ نظيره، حيث كان المرجع الأعلى لا يذخر جهداً من أجل توفير كل المتطلبات المعيشية اللائقة بأهل العلم والتعلم، من أجل الاستغناء عن الناس، ومن ثم عدم الانسياق وراء أذواق العامة وأمزجتها، وأيضاً بهدف الارتقاء بمكانة العلماء والطلبة إلى مرتبة رفيعة من الشرف والعز  والكرامة، وهو الأمر الذي ينعكس على شخصيات العلماء، ويعطيهم القدرة على إدارة الناس، وتوجيههم.

       6- الإصلاح بين الطلبة:

       كان السيد الأصفهاني يسعى لوحدة كلمة العلماء، وإظهار تماسكهم وتآلفهم، وعندما تقع منازعات أو مشاكل أو سوء فهم بين لعلماء، أو طلبة العلوم الدينية يسعى بسرعة للإصلاح بينهم، وإرجاع المياه إلى مجاريها.

       وينقل في هذا المجال أنه وقع ذات مرة نزاع بين طالبين وضرب أحدهم بالسكين، وسمع السيد بهذه القصة التي وقعت في كربلاء. وعلم أن الطالب المضروب قدم شكوى إلى الشرطة ضد الطالب الضارب، فأرسل السيد أحد الأشخاص إلى الطالب المضروب يطلبه، ولكنه لم يوافق على الحضور. لأنه علم أن السيد إذا رآه سيأمره بالتنازل عن الشكوى. ولكن السيد أصر على حضوره فأرسل ثلاثة وسطاء، ثم أرسل ولده السيد حسين وقال :ائتني به بأية صورة. فأتاه به بعد إلحاح شديد، ومن ثم السيد طلب الطالب الضارب فحضر. وصالح بينهما وأعطى كمية من المال للطالب المعتدى عليه جزاء لما أصابه، و وأصر عليه أن يذهب إلى الشرطة ويسحب دعواه، وبالفعل تم ذلك. وقد حرص السيد على أن يتم الأمر بأسرع ما يمكن حتى لا تشيع أخباره ولا يتطور إلى أكثر من ذلك. وبالفعل قد سوي الأمر كله ببساطة وبأقل من نصف يوم.

       وفي قصة شبيهة إنه كان في النجف الأشرف عالم متنفذ ولكنه كان عديم الأخلاق، فجاء ذات يوم مجموعة من طلبة العلوم الدينية إلى السيد أبو الحسن واشتكوا لديه على هذا العالم على أن أخرجهم من مدرستهم، وأسكن فيها جماعة من أصدقائه، وسألوا السيد هل نذهب و نشتكي عند موظفي الدولة ليأخذوا بحقنا؟ أجاب السيد (قدس سره): لا .. لأن هذا يسبب تفرقة بين كلمة العلماء، وهذا العالم وإن أساء بعمله هذا. ولكن علينا ان نحفظ أنفسنا بأنفسنا وهو أفضل. ثم أعطاهم كمية من المال وقال: استأجروا دوراً لكم واسكنوا فيها حتى يفرج الله عنكم .

       وبعد فترة وعندما رأى ذلك العالم حسن سلوك السيد، ترك المدرسة وسحب أصدقاءه منها. ورجع الطلبة إلى مدرستهم بحكمة السيد(قدس سره) [34] .

       فالسيد الأصفهاني كان دوماً يعمل من أجل رفعة مكانة العلماء بين الناس، واستعادة هيبتهم، وثقة الناس بهم، ومن أجل ذلك كان حريصاً على إظهار العلماء كالبنيان المرصوص، وأنهم متماسكون ومتحدون في خدمة الدين و العلم والمجتمع، وهو ما ينعكس إيجاباً على نظرة الناس إليهم، والاستماع إلى أقوالهم، والسير خلف قيادتهم، و لا يمكن تحقيق كل ذلك إلا باحترام العلماء لبعضهم البعض، وإظهار التعاون فيما بينهم، وبدون أي صراعات أو مناكفات أو عداوات قد تحصل، وهو الأمر الذي سعى الأصفهاني بكل ثقله المرجعي الكبير إلى تحقيقه، وهو ما تحقق فعلاً. 

ملاحظات واستنتاجات عامة

       وبعد أن سلطنا الأضواء على دور السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) في تعزيز قيمة العلم ومكانة العلماء، يمكننا أن  نشير إلى مجموعة من الملاحظات والاستنتاجات العامة المستوحاة من سيرته العطرة في هذا البعد المهم من حياة هذا المرجع العظيم.. وأهمها ما يلي:

       1- أن نستفيد من سيرة هذا المرجع الكبير في تعزيز القيمة الذاتية للعلم والمعرفة، فالأمم إنما تتقدم عندما تتسلح بسلاح العلم والمعرفة في شتى أبعادها الدينية والدنيوية، أما عندما يسود الجهل والأمية في أي مجتمع فإنه سيكون في الدرك الأسفل من التخلف والتقهقر الحضاري.

       ونحن اليوم عندما نفتخر بمرجع كبير كالسيد أبو الحسن الأصفهاني علينا أن نستلهم من سيرته العطرة في تعزيز قيمة العلم محفزاً لنا ولكل الأجيال القادمة للاستزادة من  المعارف والعلوم كي نكون في طليعة المجتمعات والأمم المتقدمة حضارياً.

       ومن الخطأ الفاحش أن يتحول الافتخار بعظمائنا ومراجعنا الكبار إلى هروب من أن نقوم بواجباتنا ومسؤولياتنا على صعيد تعزيز القيمة الذاتية للعلم، وتشجيع العلماء.

       2-  إن تعزيز قيمة العلم في فضائنا الاجتماعي يساعد في انخراط الأذكياء من طلابنا في السلك العلمائي، فالحوزات العلمية بحاجة دائماً إلى علماء متميزين في عطائهم العلمي والمعرفي.

       وكثيرون هم الذين يلتحقون بالحوزات العلمية في كل عام، لكن قلة من هؤلاء يظهرون تفوقاً علمياًً متميزاً، وهؤلاء القلة بحاجة إلى دعم وتشجيع وعناية خاصة كي يبدعوا في مختلف المعارف والعلوم التي يكتسبوها من الحوزات العلمية.

إن تعزيز قيمة العلم في فضائنا الاجتماعي يساعد في انخراط الأذكياء من طلابنا في السلك العلمائي، فالحوزات العلمية بحاجة دائماً إلى علماء متميزين في عطائهم العلمي والمعرفي. وكثيرون هم الذين يلتحقون بالحوزات العلمية في كل عام، لكن قلة من هؤلاء يظهرون تفوقاً علمياًً متميزاً، وهؤلاء القلة بحاجة إلى دعم وتشجيع وعناية خاصة كي يبدعوا في مختلف المعارف والعلوم التي يكتسبوها من الحوزات العلمية.

       3- يساهم تكريم العلماء والاحتفاء بهم، في إيجاد الأرضية المناسبة للإبداع العلمي، وكذلك تشجيع البحث العلمي، أما اتباع منهج التلقين العلمي فقط، فإن ذلك لا يساعد على الابتكار والإبداع. والمطلوب هو أن يمتلك الطالب القدرة على التحليل العلمي، والوصول إلى عملية الاجتهاد ليس في الفقه وأصوله وحسب، وإنما أيضاً في العلوم والمعارف الأخرى، وخصوصاً فيما يرتبط بالعلوم الشرعية.

       4- احترام العلماء هو احترام للعلم نفسه، وتكريم العلماء هو تكريم للعلم ذاته، والاحتفاء بالعلماء هو احتفاء بالعلم والمعرفة. من هنا، ينبغي أن يكون تكريمنا للسيد الأصفهاني منطلقاً يجعل ميلاده الشريف يوماً عالمياً لتعزيز قيمة العلم وتكريم العلماء المتميزين. وأقترح في هذا السياق أن تكون هناك جائزة سنوية بعنوان ( جائزة السيد أبو الحسن الأصفهاني) لتكريم كل عالم مبدع.

       5- إن تركيز السيد أبو الحسن الأصفهاني على هذا الجانب المهم في إدارته للمرجعية العليا نابع من تشخيص الأولويات؛ فعندما رأى أن الاستعمار الغربي يستهدف بصورة مباشرة مكانة العلماء، وإسقاط هيبتهم عند الناس، والتشكيك في قدراتهم القيادية لإدارة المجتمع، ركز السيد الأصفهاني على هذه الأولوية باعتبارها من الأولويات المهمة في الإدارة المرجعية.

       وعندما نستعرض تاريخ المرجعية سنجد في كل عصر هناك أولويات مختلفة، وهذا يدعونا أيضاً إلى أن نعي أولوياتنا، ونركز عليها، لتحقيق الأهداف النبيلة التي تسعى المرجعية العليا، والدعاة إلى الله لتحقيقها.

       فغياب الأولويات، وعدم الوعي بمتغيرات وتحديات كل عصر، يجعلنا نفقد البوصلة الصحيحة في الوصول إلى الغابات التي يسعى الدعاة إليها.
       6- أتصور أنه من المفيد جداً لو تشكل لجنة لتأليف موسوعة خاصة بالفقهاء الذين تسلموا زمام المرجعية منذ ظهورها بعد الغيبة الكبرى وإلى الآن، على أن تكون دراسة تحليلية لسيرتهم ومسيرتهم العلمية والعملية، وهذا العمل المهم – لو تحقق – سيكون فيه أكبر فائدة للعلم والعلماء، ولكل الباحثين عن سيرة المراجع، ولذاكرة التاريخ أيضاً.

       نسأل من الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لخدمة الدين، ونشر العلم، وتعميق القيم الروحية والمعنوية في المجتمعات الإنسانية.
                         وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
 


 

الهوامش
[ 1] - للمزيد من الاطلاع انظر الكتب التالية: أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين، ج3، ص359، مستدركات أعيان الشيعة للسيد حسن الأمين ج11، ص15، وموسوعة طبقات الفقهاء للشيخ جعفر السبحاني، ج1/14، ص31، والموسوعة العربية الميسرة والموسعة للدكتور ياسين صلواتي، ج1، ص161 وغيرها من كتب التراجم والأعلام.
[2] - مستدركات أعيان الشيعة، السيد حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1427هـ-2006م، ج11،ص16.
[3] - أعيان الشيعة،السيد محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان ، الطبعة الخامسة 1419هـ- 1998م، ج3، ص .361
[4] - سورة المجادلة، الآية : 11
[5] - سورة الزمر، الآية: 9
[6] - بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج1، ص 433، رقم54.
[7] - ميزان الكلمة، محمد الريشهري، ج5، ص 2068، رقم 13710.
[8] - الوسائل، الحر العاملي، ج27، ص27، رقم20.
[9] - محاضرات في الدين والاجتماع، مرتضى المطهري، الدار الإسلامية، بيرت- لبنان، الطبعة الأولى 1420هـ-2000م، ص205.
[10] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ-2000م، ص85
[11] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م ، ص 120 - 121
[12] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 73-74
[13] - أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الخامسة 1419هـ - 1998 م، ج3، ص360
[14]  - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 104
[15] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 129-130.
[16] - أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الخامسة 1419هـ - 1998 م، ج3، ص 361 ( بالهامش)
[17] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 187-188.
[18] - المرجعية العاملة ، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 120
[19] - موقع صحيفة الوفاق الإيرانية، www.al-vefagh.com، السنة التاسعة – العدد 2314، الأربعاء 2شعبان 1426هـ- 7/9/2005م.

[20] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000م، ص 81 – 82
[21] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 84
[22] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 87 - 84
[23] - سورة المجادلة ، الآية : 11
[24] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 109 - 110
[25] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 111
[26] - أعيان الشيعة ، السيد محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الخامسة 1419هـ - 1998 م، ج3، ص 361 - 362
[27]  -موقع صحيفة الوفاق الإيرانية، www.al-vefagh.com، السنة التاسعة – العدد 2314، الأربعاء 2شعبان 1426هـ- 7/9/2005م.

[28] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 124 - 125
[29] - أعيان الشيعة ، السيد محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الخامسة 1419هـ - 1998 م، ج3، ص 360.
[30] - أعيان الشيعة ، السيد محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الخامسة 1419هـ - 1998 م، ج3، ص .360

[ 31] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 107 - 108
[32] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 125 - 127
[33] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ -2000 م، ص 127
[34] - المرجعية العاملة، السيد ضياء الحسن، هيئة محمد الأمين، طبع عام 1420هـ - 2000 م، ص 110 - 111



اضف هذا الموضوع الى: